لا أريد أن يظن أحد أنني أميل للحضارة الأوروبية أو أمجد تاريخ أميركا أو حتى سياستها ذات اللون الجديد! ربما يتعدى الأمر مجرد الميل أو الإعجاب، فمثلي الكثيرون في شرقنا الحزين يرى في النموذج الأوروبي الصورة الأكثر وضوحاً لحفظ الحقوق الشخصية ولتبني أصحاب المهارات والمتميزين ولممارسة الحرية في بيئة ديموقراطية صادقة! هناك وراء البحر المتوسط دويلات اختارت أن تضع مصالحها في مقدمة علاقاتها مع الآخرين؛ وهو عين الصواب في عالم تحكمه القوة وتتقاسمه المصالح، مازلنا نحبس أنفسنا في خيمة، بعيداً عن الشمس، ومن حين إلى حين نطل برؤوسنا لنتفقد النور، ومن يعيش فيه! ربما اعتدنا على التباطؤ والتكاسل، لا أدري لم نشعر بالتمادي مع أنفسنا، حين نغيّر طريقة أدائنا اليومية! ما أخشاه كله أن نكون محكومين لسلسة من الجينات الوراثية التي تشق عمق التاريخ إلى غابر الزمن! وإن كان ذلك حقيقياً، فسيكون الأمر معقداً جداً!
معظم دول العالم من البشر حين تخطو نحو الحياة السياسية المتمدنة التي تحكمها الديموقراطية بصورتها السليمة من دون إعاقات، فإن هذه الدول وتلك المجتمعات كلها تخطو بوعي تحوطه المصلحة الوطنية والقومية، بعيداً عن المصالح الفردية الضيقة أو الشعور الأناني الذي نمارسه نحن في الشرق بمجرد تسلمنا منصباً برلمانياً أو حكومياً! انظروا معي ماذا نقول عن الذي يختاره الشعب لمجلس الأمة أو البرلمان؛ نقول «فاز في الانتخابات»، وكأنها مباراة في الملعب للوصول إلى الكأس! وصرنا نقول أيضاً «انتصر في الانتخابات»، وكأنها حرب مع عدو! ونسينا أنه سباق، ولكن لخدمة الوطن! نحن العرب نتناحر في ساحة المصالح، وآخرون من أهلنا سبقونا حين قتلوا في دفاعهم عن الوطن! ماذا يعني لو وصل إلى البرلمان حزب بعينه أو تجمع آخر، أو مستقلون! للأسف نحن يهمنا ذلك بحرقة شديدة، لأننا نحن بني العرب حين تصل منا فئة إلى البرلمان نعتبر ذلك تشريفاً وفرحة ما بعدها فرحة! ونسينا أن الأمر تكليف لا تشريف!
هناك في أوروبا وخلف المحيط في أميركا، بل في إسرائيل على مرمى حجر منا لا فرق يُذكر إن أفرز البرلمان حكومة يغلب عليها حزب ما؛ لأن الأحزاب كلها هناك تقدم مصلحة الوطن على كل شيء، وهذا الأمر لا ندرك منه شيئاً! نحن العرب إن أفرز البرلمان عندنا حكومة ما جاءت هذه الحكومة وغيّرت كل شيء على هواها، وكلٌ يغني على ليلاه!
إن التخطيط لبناء مجتمع عصري متماسك في وطن واحد تلزمه نظرة شمولية مستقبلية تواكب التطور في كل ميدان من دون الوقوف عند الحلول الآنية أو المشاريع الجزئية! نحن نبخل على أوطاننا باستقدام المستشارين المتخصصين من دول العالم المتقدمة! ونجري بكل غفلة وراء استقدام مستشارين من دول هي في أمس الحاجة للعون التكنولوجي والتقني! إن أوطاننا نحن العرب أغلى من أن نحولها وشعوبها إلى حقل من التجارب السياسية والاقتصادية والتربوية، بل لابد من التخطيط لحل مشكلات تواجهنا وتواجه الأجيال القادمة في ظروف نعرفها اليوم، وظروف ملامحها غامضة تهدد في الغد القريب ما تبقى من تماسكٍ سياسي للعرب!
إذاً هو ليس مجرد إعجاب بالنمط التمدني لإدارة الحياة في أوروبا وأميركا أو دول أخرى مثل اليابان... بل هي نظرة واقعية لأحوالنا المحتضرة! لعلنا نأخذ بيد الإنسان في الشرق نحو حياة كريمة يمارس فيها حرية حقيقية؛ لا يستغل بساطته أحد، ولا يتاجر بلقمته آخر! ولا يحفر له آخرون!
علي سويدان
كاتب وأكاديمي سوري
[email protected]