إذا كان من الطبيعي أن تكون المنطقة العربية في مقدمة الدول التي تضع نفسها الآن على «لائحة الانتظار» لمعرفة تفاصيل السياسة التي سيتبعها الرئيس الأميركي الجديد أوباما، جراء ما تعانيه المنطقة من أزمات معنية واشنطن بها مباشرة، فإن من غير الطبيعي أن تستمر الأوضاع العربية مرهونة بما يريده الخارج، أو بما يحدث فيه من متغيرات، من دون أي تدخل فاعل للإرادة العربية أو بسبب عدم وجود إرادة عربية مشتركة أصلاً تستبق المتغيرات الدولية والإقليمية، أو تتهيأ في الحد الأدنى لها بما لا ينعكس سلباً على المنطقة العربية.
المراهنات العربية على الخارج هي لنحو قرن من الزمن سمة السياسات الرسمية العربية، وباستثناء محدود في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، فإن الاستقطاب الدولي لدول المنطقة العربية كان الحال الغالبة على قضاياها وحكوماتها. وها هي المنطقة الآن تعيش مرحلة جديدة من الاستقطابات الدولية - الإقليمية في ظل غياب متواصل لمشروع عربي مشترك ولإرادة عربية مشتركة.
أيضاً، هناك حال ترقب وانتظار (عربية ودولية) لمعرفة ما ستقرره الحكومة الإسرائيلية الجديدة في شأن ملفات الصراع العربي - الإسرائيلي، ومصير الاتفاقات والمفاوضات مع الفلسطينيين. وكم هو مهم الآن أن يتذكر العرب أن إسرائيل لم تنسحب من سيناء إلا نتيجة حرب أكتوبر عام 1973 واستخدام التنسيق العربي المشترك بأوجهه السياسية والعسكرية والاقتصادية، بما في ذلك التحالف المصري - السوري - السعودي الذي جمع بين الحرب على جبهتي سيناء والجولان، وبين دور النفط في المعركة.
وكم هو مهم أيضاً الآن أن يتذكر العرب أن إسرائيل لم تنسحب من جنوب لبنان إلا نتيجة المقاومة الوطنية اللبنانية والتضامن اللبناني والإقليمي معها، كما كان فيما بعد دور المقاومة الفلسطينية في إجبار إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة. بينما لم يؤدِ توقيع الاتفاق السري في أوسلو إلا إلى مزيد من العدوان الإسرائيلي والاستهتار بحقوق الشعب الفلسطيني، وحينما نص «اتفاق أوسلو» على تعبير (إعادة انتشار) وليس إنهاء احتلال الجيش الإسرائيلي، فإن إسرائيل أعادت احتلال المناطق التي اعتقد البعض أن تسوية أوسلو جعلتها خاضعة فقط لسلطة وطنية فلسطينية!
لقد نجحت إسرائيل في عقد معاهدات تسوية ثنائية مع كل من مصر والأردن، لكنها فشلت على الجبهات الأخرى: اللبنانية والسورية والفلسطينية، في إقامة تسويات توقف حال الصراع المسلح معها. فإسرائيل وقعت اتفاقيات مع قيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» في أوسلو نصت على الاعتراف بإسرائيل ووقف أي عمل مسلح ضدها. لكن ذلك لم يمنع «حركة حماس» وغيرها من المنظمات أن تستمر في الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي. وإسرائيل استطاعت ضمان الهدوء على الجبهة السورية في الجولان بفعل اتفاقيات دولية، لكنها لم تضمن عدم مساندة دمشق لمنظمات فلسطينية وللمقاومة اللبنانية.
وإسرائيل راهنت على غزوها للبنان عام 1982 واحتلالها لأول عاصمة عربية بيروت، ثم على خروج قيادة «منظمة التحرير» ومقاتليها من أراضيه، ثم على إخراج القوات السورية من بيروت وجبل لبنان، ثم على توقيع اتفاق 17 مايو عام 1983، وهذه كلها كانت ضمانات أمنية وسياسية لها بإمكان عزل المسار اللبناني عن سورية والمسألة الفلسطينية. فإذا بتطورات تعصف بهذه النتائج كلها، وإذا بلبنان يشهد ولادة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، أجبرته عام 2000 على الانسحاب من دون قيد أو شرط أو معاهدة.
إذاً، سورية، لبنان وفلسطين المقاومة، ثلاثة أطراف فاعلة بالصراع مع إسرائيل، ولم تحسم بعد (منفردة أو مجتمعة) هذا الصراع. وقد كانت هذه الأطراف معاً حين اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975، وهي تشترك الآن أيضاً، بشكل أو بآخر، في وحدة الموقف والمصير وفي العلاقة الجيدة مع إيران.
وهذا ما يفسر الكثير من الأحداث التي حصلت وتحصل على ساحة كل من هذه الأطراف الثلاثة، طوال أعوام إدارة بوش، وما دار فيها من حروب وضغوطات راهنت على فصل هذه الأطراف الثلاثة وعلى صراعات في ساحاتها أو مع حليفها الأقليمي، ففشل هذا الرهان رغم ما قامت به كله واشنطن وإسرائيل معاً من ضغوطات عسكرية وسياسية وأمنية واقتصادية.
***
إن التشويه يحصل الآن للصراعات الحقيقية القائمة في المنطقة، ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، إذ لم يعد واضحاً من العدو ومن الصديق، وفي أي قضية أو معركة، ولمصلحة من؟
بينما الأمة العربية اليوم هي في انشداد كبير إلى صراعات داخلية قائمة، وضحايا هذه الصراعات العربية ليسوا من البشر والحجر في الأوطان فقط، بل سقط ضحيتها أيضاً الكثير من القيم والمفاهيم والأفكار والشعارات.
فالدين والطائفة والمذهب، كلها تسميات أصبحت من الأسلحة الفتاكة المستخدمة في هذه الصراعات.
كذلك العروبة والوطنية، هما الآن أيضاً موضع تفكيك وتفريغ من أي معنى جامع أو توحيدي، في الوقت الذي يتم فيه استخدامهما لصراعات مع جوار عربي أو إسلامي. والحرية والديموقراطية مطلبان يتناقضان الآن، فالنماذج الأميركية الديموقراطية التي عرضتها أو فرضتها إدارة بوش كانت تقوم على قبول بالاحتلال والوصاية الأجنبية على الأوطان من أجل الحصول على آليات ديموقراطية في الحكم! أما المقاومة ضد الاحتلال من أجل تحرر الأوطان، فقد أصبحت عرقاً من خارج العروبة أو مذهباً فئوياً لدى الرافضين لها!
ورغم ومضات الأمل التي تظهر بين فترة وأخرى عربياً، واستمرار إرادة العمل من أجل التغيير على أكثر من ساحة عربية، فإن المراوحة في المكان نفسه (إن لم نقل التراجع) هي السمة الطاغية على الأوضاع العربية.
وقد تعرضت أمم كثيرة خلال العقود الماضية إلى شيء من الأزمات التي تواجه العرب الآن، كمشكلة الاحتلال الأجنبي والتدخل الأجنبي، أو كقضايا سوء الحكم والتخلف الاجتماعي والاقتصادي، أو مسألة التجزئة السياسية بين أوطان الأمة أو الحروب الأهلية في بعض أرجائها. لكن من الصعب أن نجد أمة معاصرة امتزجت فيها بآن واحد هذه التحديات كلها، كما هو حاصل الآن على امتداد الأرض العربية.
فخليط الأزمات يؤدي إلى تيه في الأولويات، وإلى تشتت القوى والجهود، وإلى صراع الإرادات المحلية تبعاً لطبيعة الخطر المباشر الذي قد يكون ثانوياً لطرف من أرجاء الأمة، بينما هو هم الطرف الآخر الشاغل.
المؤسف في ذلك كله أننا نتحدث عن «الأمة العربية» وما فيها من ترابط وتلاحم بين الأزمات والصراعات، بينما عناصر الترابط والتلاحم بين أوطان الأمة تزداد تفككاً وتباعداً! ولا يمكن لأمة منقسمة على نفسها أن تربح معارك قضاياها، أو تحمل لشعوبها آمالاً بمستقبل أفضل!
صبحي غندور
مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن
[email protected]