من يراقب تصريحات القادة والزعماء السياسيين على مستوى العالم كله منذ أحداث 11 سبتمبر، سيلحظ شيوع مفردات معينة في بنية الخطابات السياسية على مستوى العالم كله. بدأت هذه المفردات تدخل لتختفي مفردات أخرى كانت هي المسيطرة والمحركة لعقود خلت، اذ بدأت مفردات مثل «محور الشر» و«الدول المارقة» و«دعم الارهاب» و«الاسلام المنغلق» تشكل جوهر الخطاب السياسي الغربي تجاه خصومه أو أعدائه أو معرقلي مصالحه في العالم، وكان هؤلاء الخصوم بدورهم يردون بالطريقة ذاتها: «الشيطان الأكبر» و«الغرب المتكبر المتغطرس» و«ابليس الأكبر» و«امبراطورية الشر».
يعكس الظاهر من الخطاب السياسي هذا مدى الشرخ الذي أصبح قائماً بين الشرق والغرب، ومدى الابتعاد عن الحوار والسياسة سبيلاً لحل الخلافات العالمية، اذ تمهّد تلك الشيطنة والأدلجة، التي يتم ترويجها عبر الاعلام والفكر، للأرضية اللازمة لشن الحروب وتبرير السياسات العنيفة بعد ان يكون قد تم غسل الوعي واغراقه في حمى التجاذبات الضرورية لتمرير سياسات الحروب والجنون هذه.
يبدو الأمر كأنه اعادة تديين للصراع، أو استخدام المفاهيم الدينية لترويج صراع سياسي. ان مفاهيم الخير والشر والأبلسة هي مفاهيم دينية مطلقة لا تحتمل الجدل، لذا يبدو الأمر وكأنه ردة باتجاه استخدام مفاهيم دينية لتبرير صراعات سياسية مقيتة بعد ان تم تجاوز هذا الأمر منذ عقود.
وللوصول الى الأهداف تلك، لابد من المرور بمرحلتين، تتمثل أولاهما في عملية أدلجة الذات ووضعها في مرتبة الخير المطلق واسباغ العصمة المعرفية التي تبرر لها ان تقوم بكل شيء، وتتجلى الثانية في عملية شيطنة الآخر أو العدو تمهيداً لضربه أو شن الحرب عليه.
وتقدّم عملية الأدلجة المبرر والحافز لجمهور لا يمكن ارضاؤه في الحالات الطبيعية بحروب كهذه، فيتم الضخ الاعلامي والتجييش السياسي والتخويف المبالغ به من عدو يتم اختراعه، حتى يصبح الجمهور أو القسم الأكبر منه متقبلاً لم لا يمكن تقبّله في ظروف أخرى. وبعد ان يتم حشد الجمهور وتعبئته يتم الانتقال الى اسباغ الشر على الخصم، تمهيداً لقبول الجمهور لأي عدوان أو اعتداء يتم تنفيذه لاحقاً تحت اسم «محاربة الارهاب»، كما تفعل أميركا أو تحت شعار «محاربة الشيطان»، كما تفعل ايران، أو تحت اسم «محاربة الكفار»، كما تفعل «القاعدة».
اذا كانت الأيديولوجيا تعني مجموعة الآراء والمعارف والأفكار التي تمثل مصلحة حزب ما أو جماعة ما أو فئة ما، شرط ان يتم بعيداً عن تشويه الخصم وشيطنته، وأن يترافق ذلك مع السماح بوجود أيديولوجيات أخرى تتنافس فيما بينها ديموقراطياً وسياسياً، بعيداً عن مناخات الفرض والاستبداد. فتتعايش بذلك أيديولوجيات أو مفاهيم أو أفكار الاشتراكية والليبرالية والقومية جنباً الى جنب وتتصارع وتتنافس من دون ان يلغي بعضها البعض، بل يبدو ذلك الصراع ضرورياً لكل منها للاستمرار والتطور واعادة البناء.
ان الأدلجة تأتي هنا لتلغي مفهوم الأيديولوجيا (وهو مفهوم صائب معرفياً) بأن تستغله وتفرغه من محتواه بعد ان يتم حصر الأيديولوجيات المتعددة (أو دمجها واغفال التمايزات فيما بينها قسراً) بأيديولوجيا واحدة تتسيّد المشهد وتخفي التناقضات القائمة وتعمل على حشد الدعم والتأييد بالسبل كلها دفاعاً عن برامجها وخياراتها، بعد ان تدّعي تمثيلها للخير المطلق والعميم في وجه الشر المستطير. وغالباً ما تتم عملية الأدلجة هذه في المنعطفات الحادة أو الأحداث الكبيرة التي يتعرض اليها مجتمع ما أو أمة ما، فيتم استغلال الحدث في عملية أدلجة شاملة سعياً الى تحقيق مكاسب لا يمكن تحقيقها في الأوقات العادية.
مثلاً ان شعار «مكافحة الارهاب» كان في بداية طرحه أيديولوجيا تمثل مصالح مجموعة من الدول التي تعرضت الى خطر الارهاب، ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعرض هذا المفهوم الى الأدلجة، واتخذ منه مطية لشن حروب وتحقيق مطامع سياسية واستعمارية، اذ عملت الدول المعنية على تجييش شعوبها وشعوب العالم وتخويفها من الارهاب في عملية غسل وعي كامل لتبرير سياسات تقوم على الحروب والاستعمار، بعد ان عمدت الى شيطنة خصومها وأبلستهم.
وكذلك تفعل منظمات «القاعدة» والاسلام التكفيري الجهادي عندما تستخدم الحرب القائمة عليها لأدلجة صراعها مع الغرب، اذ تحشد فتاواها وقواها الاعلامية، مسخّرة الدين (الرأسمال الرمزي للشعوب) لتجييش جمهورها وحشده في معركتها مع الغرب «الكافر والملحد».
الجدير ذكره أيضاً ان عملية الأبلسة لا تشمل العدو فقط، بل أيديولوجيته أيضاً، اذ يعمل كل خصم على أبلسة وشيطنة أيديولوجيا الآخر، وهذا ما نراه في الكتابات الكثيرة التي تساوي بين الاسلام والارهاب، ويقابلها من الجانب الآخر المساواة بين الديموقراطية والكفر أو العلمانية والشر.
ونذكر سابقاً عندما كان الاتحاد السوفياتي قائما فإن الاشتراكية والرأسمالية كمفهومين أو أيديولوجيتين قد تعرضا بدورهما الى عملية أدلجة وأبلسة غير منقطعة النظير.
ولنا ان نسجل هنا أيضاً ان هذا الأمر يتم مع الأسف في الكثير من الأحيان بأقلام مثقفين ينجرون الى ذلك الصراع لتحقيق مكاسب آنية ضيقة، الأمر الذي يطرح مسألة أدلجة الثقافة وانخراطها كتابع لنظام أو جهة ما، بدلاً من ان تكون ذات استقلالية تامة تكشف الزيف والخداع الذي يتم باسمها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا تم ذلك بسرعة مذهلة؟ لم تم التخلي بين ليلة وضحاها عن مكتسبات الحداثة كلها والعودة الى تاريخ الصدام والحروب والاستعمار؟
ان الاجابة عن السؤال السابق معقدة وصعبة جداً، اذ يتطلب الأمر اعادة قراءة لتاريخ الصراعات العالمية، ولتاريخ العلاقة الاشكالية بين الشرق والغرب في العمق، لأن ما يطفو على السطح ما هو الا نتاج ذلك الكائن في الأعماق الذي لم يفكّر به بعد.
محمد ديبو
كاتب وشاعر سوري وهذا المقال يُنشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»
www.minbaralhurriyya.org