يقيم بين الحضور والغياب (2 من 2)

الشاعر العراقي هاشم شفيق لـ «الراي»: الطفولة بالنسبة لي... كنز المرئيات ونبع الإلهام

u0647u0627u0634u0645 u0634u0641u064au0642
هاشم شفيق
تصغير
تكبير
| بيروت - من اسماعيل فقيه |
تستكمل «الراي» عبر هذه المساحة حوارها مع الشاعر العراقي المقيم في الغياب هاشم شفيق، والذي غادر وطنه الأول العام 1978 ومنذ ذلك التاريخ هو خارج مسقطه، وبعد الحرب الاخيرة في العراق عاد الى وطنه، تفقّده جيداً، ثم تابع تشرده وطار مجددا الى الغياب والغربة. و«الراي» التقت الشاعر في بيروت في لحظة تفوح منها رائحة الوطن والغربة والالم والحب. وكانت لها معه هذا الحوار:
• اصدرت الأعمال الشعرية، لماذا الأعمال الشعرية؟
- الأعمال الشعرية تقليد شعري متعارف عليه في العالم وكذلك المختارات، الا عندنا فانها تعني النهاية، او النضوب او الموت واي شيء له علاقة بالعقم والتوقف، هذا مفهوم سطحي لا علاقة له بجوهر الابداع، فالابداع الحقيقي لا سقف له، ولا حدود ونهايات، ان صدور الاعمال الشعرية لأي شاعر في الغرب يعني الاحتفاء بمسيرة الشاعر والاحتفاء بمنجزه الجمالي، شرط ان يتحقق لهذا الشاعر التراكم النوعي والمسافة الزمنية التي تؤهله لاصدار هذا النوع، وهنا يحضرني بعض الشعراء العرب والدور التي تبنّت نشر انتاجهم يوم كانوا في اوج نشاطهم الشعري وفي البدايات الحقيقة، فمحمود درويش صدرت اعماله الشعرية عن «دار العودة» وكان في الثلاثين والماغوط. وأدونيس في الاربعين والبياني وبلند الحيدري وخليل صاوي ويوسف الخال تجاوزوا الاربعين قليلاً، ناهيك عن سعدي يوسف الذي اصدر اعماله الشعرية في بغداد وكان في ذروة عطائه الجمالي وفي اوج سنوات شبابه ابان منتصف السبعينات من القرن الماضي. اما الفقير الى ربّه المستجوب امامك فأعماله الشعرية صدرت وقد تجاوز الخمسين، واذا تركنا مسألة المقارنات فانك بالأعمال الشعرية تجمع ما تشتّت من انتاجك هنا وهناك وما نفد وفُقد وصودر، فأنت هنا تُعيد طباعته مرة ثانية، وتعيد النظر اليه، وترى في جمع شتاته اين ابدعت وأين وهنت وأين تكرّرت لكي تتفادى في جريك ما قلته سابقاً، فضلاً عن انك ستقدّم للقارئ عملك كلّه دفعة واحدة لكي يتسنى لدارسك الالمام بجميع جوانب تجربتك الشعرية.
• كيف تقرأ طفولتك اليوم، هل تعود الى ماضيك وكيف تترجمه في الكتابة؟
- الطفولة بالنسبة لي هي كنز المرئيات ونبع الالهام، عالم الطفولة يسبغ على اي فنان ومبدع آفاقاً لا نهائية، ففيها تكمن اكوان ملوّنة رسبت في اعماق الانسان وسوف تظل تلازمه حتى مماته، لا اعرف انه كان في طفولة الآخرة ثمة مرحلة للطفولة، فان ذلك سيجرّني للتعبّد والصلاة لها.
كلّ شعراء العالم كانت الطفولة تمثّل لهم ينبوعاً ثرياً من الجماليات والمخلوقات الفاتنة والزمن الأليف، بهذا الزمن الشفاف، اي زمن الطفولة ندرأ ازمنة الشيخوخة ونطرد اوقات الوحشة والغلاظة ونتخطى اسوار الظلام والوحشية التي يسعى الزمن المعاصر الى اقامتها في وجه الانسان الحديث، من هنا اقول كل تجديد حقيقي تكمن خلفه طفولة رائعة ومتميزة، فهكذا كان الشأن مع «رامبو» الذي غيّر بطفولته وبراءته ولمسته القروية مسار الشعر في العالم ... وكذلك الامر مع بودلير وريلكه واليوت والسيّاب ... فالطفولة تشيع وتتناثر في اشعار ريكله ونيروداوت .س. اليوت خصوصاً في عمله المدهش «الرباعيات الأربع».
اما طفولة اليوم فهي طفولة معلّبة ومصنّعة لا آفاق لها، وأفق هذه الطفولة محدود ـ غرفة ضيّقة ـ تهيمن عليها الشاشة المرئية والألعاب الالكترونية الحديثة التي تُحرّك بالأزرار وأنت وراء جدار ومعزول عن العالم وحركة الكائنات، هذه هي سمات الطفولة المعاصرة.
• بعد تجربتك الشعرية الطويلة وتنقّلك في المنظر، وبعد هذا العمر الذي امضيته في الحياة والتعب، ماذا تقول الآن، بماذا تعترف، وماذا استنتجت؟
- اقول ان المنظر وسّع من مداركي وشذّب ادواتي الفنية وجعل من تجربتي الشعرية، تجربة انسانية ـ كوزموبوليتية، فيها روائح جمالية شتى، وسياقات لغوية وطرائف فنية متنوعة، والحياة بكل انساقها تمنح من يعرفها ويعشقها سرّ جمالها، لقد تقلّبت في حياة متنوّعة، وركبت الاخطار وجازفت وغامرت، مضيت في كل طريق لأخبر جانباً من هذه الحياة الواسعة، فوجدت فيها الجميل والبشع، الفاتن والدميم، القاتل والضحية، الفرح والألم، الذرى والأسافل ومن لا يعرف الحياة ومن يخونها تودي به في اول المسافة وفي بداية السبيل، وأهم شيء في هذه الحياة هو ان تكون صادقاً معها، وهذا الصدق هو الصدق مع نفسك، فالصدق والبساطة والبراءة الأولية هي ما يبقى للانسان، ومن يزيّن ويتصنّع ويصنع لنفسه الهالات وهو معتم وفارغ، سرعان ما تكشفه الحياة، لقد اخترت لنفسي من دون تخطيط مسبق طريق الألفة، طريق الحب مع الآخر، لذا الحياة منحتني هذا الحب الموجود في سبيلي اينما ذهبت، وأعطتني ايضاً كلّ هذه المسالك الأليفة لأسير فيها من دون عوائق.
• العائلة في حياتك كيف تفسّر تأثيرها في مسيرتك الشعرية؟
- عائلتي اصبحت جزءاً من شعري وطرفاً في بعض مكوّناته، ثمة زوجتي وهي صديقة العمر والحياة بكلّ تجلياتها، وثمة ولدي وابنتي اللذان لهما كما اشرت حضور بائن في بعض قصائدي وكذلك هو حال الحبيبة والزوجة ورفيقة الدرب الطويل الذي تقاسمته المنافي، هذه المرأة اخلصت للشعر قبل ان تخلص لي، من هنا استمرار علاقتنا الطويلة.
• ماذا يعني لك الوطن في ظل التحوّلات الكبيرة التي مرّت على المنطقة والعالم؟
- العراق هو اكبر من وطن، هو بؤرة تحوّلات هذا العالم، فيه اجمل جغرافيا لو كان مستقرّاً وآمناً، فيه كنوز وخيرات لا تحصى لكن العراق ظل على مدار قرن عرضة لهزات وكوارث وعدم استقرار ونتيجة جغرافيته العجيبة وكنوزه المادية والبشرية ذات الابعاد التاريخية والحضارية، والميثولوجية والميتافيزيقية.
• تعيش في لندن منذ خمس عشرة سنة، كيف تصف هذه المرحلة عن عمرك؟
- قبل مجيئي الى لندن جبت عواصم العرب، بحثاً عن ركن صغير، عن مأوى، عن اقامة هانئة، لكن الامر كان مخيّباً ... العرب في ما بينهم اكثر عنصرية من اي امة موجودة على كوكبنا الارضي، انهم يختلقون للعربي من جنسهم ودمهم ولغتهم ألف مشكلة حياتية واقتصادية ثمّ يختلقون مآزق قانونية له يبدعون فيها، العرب يتفنّنون في ابتداع المشاكل الانسانية، بدلاً من الوئام والسلام وخصائص الاتحاد والتعاون، فالمبدع العربي بالنسبة الى هذه الامة، كائناً زائداً، مثيراً للقلق والاسئلة ... ينبّه الى مواطن الخلل الذي يكمن فيهم ... يستفزّ طمأنينتهم وراحتهم ويزعجهم بالرؤى والتصوّرات والأخيلة ... فهم هكذا قانعون وراضون. من هنا كان لجوئي الى لندن اضطرارياً بعدما سُدّت في وجهي ابواب الدنيا، ولندن رغم الذي تقدّم ليست الجنة او نهاية المطاف.
• ترجمت قصائد كثيرة لشعراء عالميين، ماذا عن هذه التجربة وكيف استفدت منها؟
- بالتأكيد ترجمت الشعراء الذين أحبّهم، والترجمة لديّ هي تمارين يومية لكي نكون على تماس مع الانكليزية، ومع عوالمها الجذابة ومنوضاتها الرؤيوية، تلك التي تفتح لك افقاً من التخيّل والايهام الموحي بعوالم وكائنات ومناخات جديدة هي غير ما تراه في لغتك، هنا تتحرك في مستوى آخر وفي سبيل فيه مفاجآت فاتنة ... طبعاً اتحدث هنا عن الترجمة كهاوٍ يحبّ اللعب بالصور والرؤى والكلمات ليس الا.
• النقد شبه غائب عن الساحة الأدبية والشعرية لماذا في رأيك؟
- النقد الأدبي خصوصاً الشعري آخذ في الانحسار، وما تبقى من بعض هذا النقد يتركّز في الجامعات وجلّ هذا النقد تقليدي ـ محافظ يتحرّك في دائرة الثبات والاتباع، والآخر منه خصوصاً المتميز والذي حصل على اعتراف ضمن مساحة النقد العربي امسى يُصبح ويبيت في فنادق المهرجانات الثقافية العربية، او يدور بحقيبته المعبأة بالنظريات الغربية من بنيوية وتفكيكية، ليكون عضواً في لجان الجوائز الأدبية مع الاعتذار هنا لميشيل فوكو وجاك دريدا، والناقد النظري مدار حديثنا ان قدّم شيئاً، ففي الغالب يكون حول الشعر عموماً، او ينصبّ حول رمزين او ثلاثة من شعراء الحداثة العربية، اما الآخرون فمنسيّون ومهملون، فخذ على سبيل المثال تجربتي فرغم مرور اكثر من ثلاثين عاماً عليها لم تحظ بدراسة جادة ومرموقة، ولم تنلْ سوى الانطباعات والمتابعات النقدية والصحافية، والتي اغلبها يكون متابعاً لاصدار جديد لي، وقريني ونظيري الشاعر العربي لا يشذّ عني في هذا المقام.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي