في خضم العدوان الذي شنته إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين من أطفال، ونساء، وشيوخ، مستبيحة قتلهم بسبب ما تصفه تل آبيب بالمساس بأمن مواطنيها جراء الصواريخ التي تطلقها «حماس» على أراضيها. وفي أوج الحرب الإعلامية والسياسية بين الفلسطينيين، ومن شايعهم، والإسرائيليين. وفي خضم الضجة التي أثارها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بانسحابه من منتدى «دافوس»، يظهر وفجأة على الساحة السياسية والإعلامية المشتعلة عملاق جديد، أراد أن يكون له صوت وموقف في هذه الساحة ألا وهي تركيا بطرفيها: رجب طيب أردوغان، والرأي العام التركي. فما الذي دعا تركيا إلى الدخول وبكل قوة إلى الساحة الإسرائيلية - الفلسطينية؟
المراقبون يصفون هذا الدخول التركي القوي بالإعلان الرسمي عن أن منطقة الشرق الأوسط سوف تشهد من الآن قيادة وقوة جديدة هي تركيا، بعد أن جرب الجميع فرصتهم وفشلوا بها. فمصر، وحسب آراء بعض المراقبين مكبلة باتفاقيات سلام مع إسرائيل. وزمن القيادة المصرية للعرب قد ولى... وسورية محاصرة ومصنفة في خانة الإرهاب، وأي تحرك يعني أن النظام سيشهد مزيدا من الحصار. أما إيران - والمصنفة إرهابياً حسب الأميركيين - انكشف عجزها بعد مجازر غزة، وذهبت تهديداتها لإسرائيل وحرقها لتل آبيب أدراج الرياح. أما دول الخليج فالوقت أمامها طويل حتى تفرض قوتها وسيطرتها على منطقة الشرق الأوسط. ولهذا، فإن تلك العوامل شجعت تركيا على مواجهة إسرائيل سياسياً، وإعلامياً، وشعبياً. فتل آبيب وأنقرة أصبحا الآن يتنافسان على زعامة الشرق الأوسط. وتركيا لا تريد لإسرائيل الانفراد بتلك القيادة.
بالإضافة إلى ذلك، تركيا تحاول الدخول إلى النادي الأوروبي بشكل رسمي، وهي تعمل ما في وسعها كله لإقناع الأوروبيين، أو لإجبارهم على الاقتناع، بأن أنقرة يمكن أن تكون امتداداً أوروبياً للشرق الأوسط وبشكل رسمي. ولهذا فإن استعراض القوة التركي، ومواجهة إسرائيل سياسياً من خلال تصريحات أردوغان القوية، وشعبياً وإعلامياً من خلال المظاهرات التركية المليونية، هما إعلانان واضحان لمدى قوة تركيا بمنطقة الشرق الأوسط.
سبب آخر دعا تركيا بطرفيها إلى هذا الدخول بقوة، وهو أمر يتعلق بالكرامة التركية. فالشعب التركي متناغم مع حكومته وقيادته، وشعر بالإهانة من الإسرائيليين بسبب ما يصفونه بالكذب، وخداع تل آبيب لأنقرة. فقد وعد أولمرت باستشارة وزرائه في الوساطة التركية، لكنه ذهب للهجوم على غزة واستباحتها، وهو ما فسره أردوغان، وصرح به علانية، بأن إسرائيل أهانت تركيا.
وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير، بانسحاب أردوغان من منتدى «دافوس» احتجاجاً على عدم إعطائه الفرصة للرد على مغالطات شمعون بيريز تجاه المدنيين والعزل في غزة، وهي حتماً رسالة واضحة جداً لإسرائيل مفادها: لا تستهزئي بنا ولا تمارسي الكذب علينا، فنحن لسنا مثل الذين تستقوين عليهم. وقد فهم شمعون تلك الرسالة جيداً، وقدم اعتذاراً خلال الاتصال التلفوني مع أردوغان.
ولتبيان مدى الامتعاض من تلك الإهانة الإسرائيلية، وصل الغضب التركي بانتقاد مبطن للولايات المتحدة، لأنها لم تدن الأعمال الإسرائيلية. ووصل الأمر بأردوغان بوصف الأطراف التى لم تدن الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة بأن لها ليس فقط معايير متعددة، بل ازدواجية في المعايير. وانتقد أردوغان موقف المجتمع الدولي وصمته تجاه ما يجري فى غزة.
كما هاجم أردوغان رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت الذي قال: «إن رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية في تركيا يتحدثان بعاطفية»، وقال: «نعم إن عاطفتنا تتحرك تجاه إخواننا فى غزة التى تشهد كارثة ومأساة إنسانية، ونشعر بالحزن تجاه ما يحدث فى غزة لا في إسرائيل، ونحن نتحدث كأحفاد للعثمانيين الذين تعاطفوا مع اليهود وفتحوا لهم أرضهم، وأحضانهم عندما طردوا واضطهدوا».
إن في التصرف التركي هذا رسالة واضحة بأن تركيا مقبلة، وأن قيادة وسيادة منطقة الشرق الأوسط ليست لإيران، أو إسرائيل، أو لدولة عربية، بل لتركيا أو بالأحرى... «العثمانيون الجدد».
طارق آل شيخان
رئيس «كوغر»
[email protected]