ما إن يتم ذكر الواقع المزري الذي يتصف به العالم العربي والإسلامي، وحال التخلف السياسي، والاقتصادي، والعلمي، التي تجعل معظم البلدان العربية تقبع في مكانة متأخرة بين الأمم في مجالات شتى، حتى تجد شرائح عريضة من المجتمع العربي ترد بحماسة متحججة بالعصر الذهبي للحضارة العربية والإسلامية. وإذا كان الحديث عن تخلف العرب في مجال التقنيات الحديثة للمعلوميات، سرعان ما يجيبك البعض أن العالم الرياضي المسلم الخوارزمي هو واضع علم اللوغاريتمات، الذي شكل النواة الأولى التي تطورت منها المعلوميات. أما إذا كان الكلام عن قدرات الطب الحديث على علاج أصعب الأمراض فَيُشار إلى كون الأطباء المسلمين، من أمثال ابن سينا والرازي، كانوا متفوقين على نظرائهم الأوروبيين في مجالي التشريح والجراحة. وبالطبع فإن تخلف العرب عن المسايرة، والمساهمة في تطور العلوم الحديثة يرد عنه بأن هذه العلوم التي طورها الغرب انبثقت في الأصل من رحم فلسفة الإغريق، التي ما كانت لتصل إلى علماء أوروبا لولا فلاسفة المسلمين من أمثال ابن رشد، وهكذا دواليك في المجالات كلها. فرفض العرب لحاضرهم المتردي يجعلهم يحتمون بماضيهم الزاهر. إنه رد فعل قد يبدو طبيعياً، لأنه يريح المرء، ولو موقتاً، من عناء الإجابة عن الأسئلة المستعصية للحاضر.
لقد أصبحت حالنا نحن العرب كحال ذلك المحارب القديم الذي خاض الحروب تلو الحروب، وحقق النصر تلو النصر حتى ضَعف وذبلت قوته، وانتهى به المطاف في حانة بائسة يجتر اسطوانة انتصاراته، ومعاركه لكل من شاركه طاولة الشراب.
ليس عيباً أن تنظر الأمم إلى ماضيها كي ترسي دعائم تقدمها، لكن عيب هذه الأمة أنها ظلت منبهرة بماضيها لا تنظر إلا لما هو مشرق فيه حتى توقفت عن التقدم. إننا هنا لسنا بصدد إنكار دور التاريخ في فهم المسار الحضاري للأمم وتوطيد دعائمه. لكن قراءة التاريخ يجب ألا تكون انتقائية تكتفي بالحقب الزاهرة، وتغفل فترات الاندحار والتقهقر. فالرجوع إلى الماضي يجب أن يكون الهدف منه استخلاص العبر، والدروس، لأنه السبيل الأمثل لإيجاد الحلول لمشاكل الحاضر.
إن العرب هائمون بماضيهم، لأنهم كتبوا صفحات مشرقة من التاريخ الإنساني لقرون. لكنهم ظلوا خارج هذا التاريخ لقرون أيضاً. لقد أضاعوا الطريق التي قادتهم ذات يوم نحو الحضارة فبحثوا عنها لأزمنة، ولكن من دون جدوى. فالالتحاق بركب الحضارة مجدداً، ودخول التاريخ من بابه الواسع يقتضي من العرب معرفة كيف خرجوا منه من الباب الضيق.
ويظن الكثير أننا خرجنا من التاريخ في ذلك اليوم من عام 1492، حين سلم أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة المسلمين مفتاح قصر الحمراء للملكين فرديناند وإيزابيلا. لكن هذا الحدث، على أهميته، لا يحمل سوى مدلول رمزي أعطى بعداً رومانسياً لتراجيديا الاندحار العربي. لقد خرجنا من التاريخ قبل ذلك بكثير، يوم توقف الاجتهاد، وأحرقت كتب ابن رشد بالأندلس، وأغلقت «دار الحكمة» في بغداد.
لقد خرجنا من التاريخ يوم توقفت مدارس العلم عن لعب دورها الحقيقي، وصارت مجرد مكان يجتر فيه الخلف ما قاله السلف. لقد خرجنا من التاريخ حقاً يوم اختفت تلك البيئة المتسامحة التي وظفت الطاقات الخلاقة كلها، حتى تلك المقبلة من أديان أخرى، تلك البيئة التي سمحت لفيلسوف يهودي مثل ابن ميمون أن يصدر كتبه في دار الإسلام، بل وأن يصير طبيباً خاصاً لصلاح الدين، أعظم سلاطين المسلمين في تلك الحقبة. هذه الأسباب عمقت جذورها في جسم أمتنا فأوقفتها عن الحراك والتقدم حتى ظللنا جامدين، وباءت محاولتنا كلها للنهوض بالفشل.
الداء إذاً متجذر في عمق تاريخ هذه الأمة. أما استخلاصه فيمر أساساً عبر إصلاح شامل لمناهج التعليم، والمنظومات الفكرية التي تطرح الانتقال المعرفي بين الأجيال. إصلاح يخفف من وطأة التقليد والاتباع، ويحيي ملكة النقد والابتكار، ويعيد الاعتبار لوظيفة الاجتهاد. إن رهان إخراج العالم العربي من أزمته الحالية يتوقف على إعادة قراءة التاريخ قراءة واقعية بعيدة عن التيئيسية القاتمة، وعن التفاؤلية الحالمة.
هذا هو المسار الأمثل للتغيير، مسار يجعلنا قبل كل شيء نغيّر ما في مجتمعنا من عيوب ترسخت فيه عبر التاريخ، فنضع بذلك اللبنة الأولى لتطور قد يلحقنا بركب الحضارة من جديد، ويمنحنا فرصة جديدة لدخول التاريخ مرة أخرى.


رشيد المجيدي
حاصل على دبلوم الدراسات المعمقة في العلوم الاقتصادية والمقال يُنشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية» www.minbaralhurriyya.org