كتب الإمام الفارابي كتبا مطولة عن المدينة الفاضلة وعن طرق تحقيق السعادة، وأكد على ضرورة تميز الرؤساء والملوك بالقوة الفكرية التي تمكنهم من استنباط ما هو خير وفاضل لشعوبهم وان تلك القوة الفكرية لا تتوافر في أي شخص، وانه بقدر قوتها وعظمتها بقدر قوة وعظمة الرئيس، ثم وضع الفارابي شروطا كثيرة لا بد من توافرها في الرئيس وكذلك فيمن يليه في المسؤولية.
أشعر بالحزن على ما تقوم به بعض الصحف والفضائيات من تجريح قاسٍ بحق نواب مجلس الأمة وبحق مجلس الأمة، وأوافق اخواني النواب بأن ذلك الطعن والشتم والتجريح يتنافى مع أخلاقنا الاسلامية ومع أهداف الإعلام عامة، وقد ذكرت سابقا بأن هدف الربح والانتشار لدى الصحف والفضائيات قد يجرها الى اقتحام كثير من المحظورات من أجل التميز، حتى وان كان بالباطل.
لكن ليسمح لي اخواني النواب ان أقول لهم بأنهم هم من يوفر للاعلام مادة دسمة للطعن والتجريح بهم، فمجلس الأمة يمثل الرئاسة للبلد التي يرتبط بها كل شيء، والنائب هو قمة الهرم، فهل تنطبق صفات القوة الفكرية والقيادة في كثير من نوابنا كما ذكر الفارابي؟!
للأسف ان كثيرا من النواب لا يتمتع بأقل درجة من تلك القوة الفكرية ان لم يكن العكس، وقد يكون النظام الديموقراطي الذي يأتي النائب عن طريقه الى المجلس هو السبب حيث ان الوصول الى المجلس لا يتطلب أكثر من حنجرة واسعة وأموال كثيرة ودغدغة لمشاعر الناس ووعود معسولة، وقد شاهدت دخول الراشين وسراق المال العام والمتعصبين الى المجلس، ثم بعد الوصول الى المجلس لا بد للنائب أن يسعى لابقاء صورته محفورة في نفوس الناس أحبوه أم كرهوه، فلا يترك مناسبة إلا ويتكلم فيها ولا لقاء إلا تصدّره ولا موضوعا إلا وتكلم فيه، فإن تعذر عليه ذلك بحث عن وسائل ترفع أسهمه الى السماء مثل التهديد بتقديم استجواب لوزير أو صراخ في المجلس وشتم لخلق الله تحت ذريعة الحصانة البرلمانية.
تصوروا بأن صحيفة قد قررت عدم نقل تصريحات النواب أو أخبار المجلس، فهل سيشتريها أحد؟! بل إن التندر بأخبار النواب ووضع المانشيتات الكبيرة لكل كلمة تصدر منهم قد أصبحت الغذاء اليومي للاعلام، فلماذا يزعل النواب ان كانت هذه الصحافة التي تبرزهم هي من تذمهم؟!. ولماذا يزعل النواب ان قامت بعض وسائل الاعلام بابراز أخطائهم وسقطاتهم الكثيرة وكشفتها للقراء والمشاهدين؟! ولماذا يسمحون لأنفسهم بمحاسبة الجميع ونقد الجميع ثم يرفضون ان ينتقدهم أحد بالرغم من كثرة اخطائهم وقيادتهم البلد الى شفا الهاوية بسبب الصراع على تبديد الأموال وتعطيل المشاريع والتمصلح من مناصبهم والتنمر على الجميع؟!
* * *
«لما وارى الناس جثمان سليمان بن عبدالملك في التراب، أعلن على المنبر بأن عمر بن عبدالعزيز هو الخليفة، فلما تلقى عمر خبر توليه انصدع قلبه من البكاء، وهو في الصف الأول، فأقامه العلماء على المنبر وهو يرتجف ويرتعد، فأتى ليتحدث فما استطاع ان يتكلم من البكاء، ثم قال لهم: بيعتكم بأعناقكم، لا اريد خلافتكم، فبكى الناس، وقالوا: لا نريد إلا أنت فاندفع يتحدث، فذكر الموت وذكر لقاء الله وذكر مصارع الغابرين حتى بكى مَنْ بالمسجد».


د. وائل الحساوي
wae_al_hasawi@hotmail.com