شكلت السياحة التجميلية في لبنان ركيزةً من ركائز الدخل القومي لا يستهان بها وقد استطاعت ان تستقطب زواراً من أنحاء العالم العربي كافة وثقوا بمستوى خدمات هذا القطاع وبراعة العاملين فيه من أطباء ومستشفيات وعيادات خاصة ومراكز تجميل محترفة.

وفي رحم المجتمع اللبناني، باتت صناعةُ التجميلِ ثقافةً محليةً وجزءاً من العادات اليومية ولا سيما عند السيدة اللبنانية والكثير من الرجال أيضاً. لكن هذا القطاع المهمّ يشهد اليوم عثرات نتيجة أزمتين كبيرتين، «كورونا» التي طالت العالم أجمع وما رافقها من حجْرٍ منزلي وارتفاع سعر الدولار الذي انعكس سلباً على كل أوجه الحياة في لبنان. فكيف يتكيّف قطاع التجميل في لبنان مع الأزمات ليبقى واقفاً على قدميه؟.

في الأزمات الكبرى يعيد الناس جدْولةَ أولوياتهم ويتمسكون بالأساسيات فقط تاركين الاهتمامات الثانوية جانباً حتى يحين أوانها. واليوم مع بدء عودة الحياة الطبيعية إلى مجاريها في لبنان بعد فترة الحجْر المنزلي والتعبئة العامة، بدأ الناس يتحضرون للعودة الى اهتماماتهم السابقة. عند النساء شكلت العودةُ الى عالم الجمال والتجميل نفحةَ حياةٍ بثّت الروح فيهن من جديد مع حقنة «بوتوكس» من هنا و«فايشل» من هناك، وبعض جلسات التدليك المنحّف بين هنا وهناك. ولكن الصدمة الكبرى كانت في تَزامُن العودة مع ارتفاعٍ جنوني غير مضبوط بسعر الدولار أدى الى موجة غلاء فاحش وإلى تخبّط في تسعير السلع والخدمات ومن ضمنها الخدمات التجميلية. فهل لَجَمَ ذلك النساء عن التوجه الى أطباء وخبراء التجميل؟ وهل تَراجَعَ الإقبالُ على التجميل ونزلت أسهمه أم وَجَدَ أهلُ القطاع أساليب لمجاراة الأزمة والتغلّب على تداعياتها؟

[7e136490-ee63-46f7-8cb4-ee8c8ef1417d]إقبال غير متوقَّع على التجميل«الراي» جالت على بعض العاملين في قطاع التجميل لنستطلع منهم كيفية تعاطيهم مع أزمة الدولار وقبْلها «كورونا»، فتفاجأنا بأمور لم نكن نتوقعها. الدكتور انطوان غانم، وهو طبيب جلد وتجميل في إحدى أهم المستشفيات اللبنانية، أخبرنا أنه ومنذ شهر على الأقلّ يعمل بمعدل 12 ساعة في اليوم ليلبي طلبات عميلاته اللواتي لم يتمكّن من التعامل معهنّ وجهاً لوجه أثناء الحجر.ويقول: «ثمة تَهافُت غير مسبوق حالياً على الإجراءات التجميلية، وكأن السيدات يردن التعويض عن كل ما فاتهنّ، وقد وجدن في العودة الى التجميل «فشة» خلق عما عشْنه من ضغوط في زمن الحجر الصعب».

يعترف غانم أن مخزونه من البوتوكس ومواد التعبئة انتهى فعلياً نتيجة كثرة الطلب وبات لزاماً عليه طلب كمية جديدة من المواد.وهنا المشكلة الحقيقية إذ إن سعرها يحدده سعر صرف الدولار ولا شيء ثابتاً في هذا السياق، والشركات المستورة لمواد التجميل تتعاطى مع السوق ككل الشركات أي تطلب التسديد على أعلى سعر لتتمكن من تأمين قدرتها على الاستيراد من جديد.

وحتى في أيام الحَجْر كان الطلب على الإجراءات كبيراً «لكننا كنا نرفض القيام بأي إجراء»، يقول غانم «حفاظاً على سلامة المريضة وسلامتنا، وكنا نستعيض عن ذلك باستشاراتٍ عبر الواتساب لم تتوقف أبداً بل ازدادت وتيرتُها حين كان لدى النساء متسع من الوقت للاهتمام بأنفسهن أو كنّ يبحثن عما يخفف عنهن حدة القلق والخوف من الفيروس».

أليست الأسعاراليوم مشكلة بالنسبة للزبائن؟ بالطبع يقول د.غانم «لكنها لا تطال الجميع، فالسعر بالدولار الأميركي لا يزال كما هو تقريباً، والمشكلة هي في تحويله الى الليرة اللبنانية وهنا يكون الفارق المخيف. أما مَن لديهم العملة الأميركية او يتلقون تحويلات من الخارج فلم يتأثّروا كثيراً وما زال بإمكانهم القيام بالإجراءات التجميلية ذاتها التي اعتادوا عليها في السابق. ويصح الأمر عند القادمين الى لبنان من الخارج حيث التسعير بالدولار للإجراءت التجميلية لا يزال أوفر وأقلّ سعراً من البلدان الأوروبية عموماً».

ويضيف: «لا شك في أن ارتفاع سعر الدولار انعكس سلباً على جزء كبير من السيدات اللبنانيات وعلى إمكانياتهن الشرائية، وانعكس ذلك بالتالي على أطباء التجميل. من هنا وجدنا أنه لا بد من مراعاة هذا الوضع للحفاظ على عملنا ومرضانا. بالنسبة اليّ كان الخيار أن أخفّض من قيمة المعاينة، فلا أطلب التسعيرة السابقة. كسرتُ من أرباحي بلا شك وسعيتُ الى تخفيف المصروف داخل العيادة قدر المستطاع مثل كل الأطباء لأتمكن من الاستمرار ومراعاة زبائني، لكن ما لم يمكنني التساهل فيه هو نوعية المواد المستعملة. فثمة أطباء أو عاملين في قطاع التجميل من غير المرخّصين عمدوا الى خفْض النوعية واستبدالها بمواد مشكوك بمصدرها لتقديم أسعار مُناسِبة للجميع، لكننا كأطباء مجازين ما زلنا نلجأ الى النوعية السابقة مع رفْع بالأسعار. أما مَن شاء عن وعي الحصول على نوعية أدنى من المعتاد فيخضع لذلك على مسؤوليته الخاصة».

ويوضح أن بعض السيدات فضّلن تخفيف الإجراءات أو جدْولتها بدل المساومة على نوعية المواد.فمَن كانت تُجْري حقن «بوتوكس» لكامل وجهها باتت تطلب تجزئة الإجراء أو تقسيطه بحيث تقوم اليوم بإجراء حقن لمنطقة العينين وتترك الباقي للشهر المقبل وذلك وفق المبلغ الذي تحصل عليه شهرياً من المصرف أو وفق حالتها المادية.

رغم الإقبال المفاجئ الذي سمعنا عنه من د. غانم عرفنا أن الأسعار بالعملة اللبنانية قد تضاعفت مرتين وثلاث. فحقن البوتوكس لكامل الوجه التي كانت كلفتها 450 الف ليرة لبنانية وصلت اليوم الى مليون ومائتي ألف ليرة لكن بقي المبلغ نفسه بالدولار. أما مستحضرات التجميل من كريمات عناية وغيرها فقد عدّلت الشركات الموزّعة في أسعارها فارتفع سعر البعض وبقي سعر المُنْتجات المطلوبة على ما هو إرضاءً للزبائن.

التسويق الذكي طريقكم الى الجمالأمام هذا الواقع المأزوم تفنّن العاملون في قطاع التجميل في التسويق لعملهم. فما عاد الصيت الحسن وحده كافياً ولا الخبرة والتمرّس أو المعدات الحديثة والمراكز المتطورة الضمانة لجذْب الزبائن بل القدرة على تسويق الخدمات التجميلية بشكل ذكي وجذاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي. كثرٌ استعانوا بوجوه معروفة لشهيرات يعشقهن الجمهور ليمدحن بإجراءات هذا المركز أو ذاك أو لجأوا الى عروض مباشرة على «فايسبوك» أو «انستاغرام» ليُظْهِروا خطوات العلاج ونتائجه الباهرة فتفاعَل الجمهور معهم مباشرة وطرح أسئلته وانتابتْه الحشرية والرغبة بدوره لتجربة هذا الإجراء. العروض كثيرة على مواقع التواصل، ولكل مناسبةٍ ابتكرتْ مراكزُ التجميلِ رزمةَ عروضٍ خاصة طالت النساء والرجال على حد سواء. الأسعار جذابة وإن تكن خادعة في بعض الأحيان، والهدايا كثيرة تجتذب الزبائن وإن لم تكن ذات قيمة. المسابقات على أوْجها والفائزات يربحن عنايات مختلفة تجرهنّ إلى عنايات أخرى، أما طلبات المستحضرات والكريمات فتصل الى المنازل معقّمة موضّبة ومن دون أي كلفة إضافية وتُغْني عن زيارة المعهد في زمن الحجر.

الخدمات الجمالية متعددة ومتنوعة في كل مركز ولا بد للسيدة (أو الشاب) أن يكونوا بحاجة لإحداها، فمَن لا تسعى وراء التجميل ربما تبحث عن التنحيف والتخلص من الشحوم.ومَن تبتعد عن الفيلر والبوتوكس تحتاج بلا شك الى إزالة الشعر الزائد عن الوجه، أما مَن يخشى من الرجال أن يعرف أحدٌ بإجراءاته التجميلية فيبحث على الأقل عن تغذية فروة رأسه حتى لا يصيبه الصلع باكراً.

تُطْلِعُنا كريستال، إحدى القيّمات على مركز تجميل معروف، على سرٍّ قد يفاجئ البعض في هذا الظرف وهو أن العنايات التي تتم في «السبا» بواسطة الأجهزة المختلفة تشهد اليوم تَراجُعاً في الأسعار، ولا سيما إذا كان المعهد قد حصّل منذ زمن تكلفة أجهزته.فاللايزر المزيل للشعر بات ربحه صافياً بعدما تم تسديد ثمنه سابقاً ولذا صار بالإمكان خفْض سعر الجلسة أو استعمالها كهدية لتحفيز العنايات الأخرى.أما مَن لم يستوف بعد ثمن تجهيزاته فهو في مشكلة حقيقية ولا سيما أن التسديد يتم بالدولار ولا شك في أن البعض سيسعون لإعادة أجهزتهم إلى الشركة أو بيعها الى مشغّل آخر. كل السبل جائزة لإنعاش قطاعٍ بات يترنح في مسيرته ومهدَّداً في مصيره.ولكن هل يكفي التسويق وحده للحفاظ على الزبائن؟ اختصاصية التجميل وصاحبة معهد ومستحضرات Cara Luna روز كيروز الأشقر تشرح الأمر من وجهة نظرها فتقول لـ «الراي»: ما زلنا حتى اليوم نعتمد دولارنا بـ 1500 ليرة لبنانية (في السوق السوداء تَجاوَزَ 9 آلاف ليرة لكل دولار) لنحافظ على زبائننا،لكن هذا الأمر لا يمكن أن يستمرّ وسننتقل إلى تسعيرة 3000، نحن نشتري موادنا باليورو، لكننا ارتضينا أن نخسر لنحافظ على زبائننا وبتنا نتساهل الى أبعد حد ونخفّض من اجرة يدنا لنردّ تكلفتنا فقط.لقد اختصرنا حتى في تقديماتنا لموظفينا كي لا نلغي أنفسنا.وتمضي بقولها: ثمة أمور لا يمكن التهرب منها، فكلفة تشغيل مركز تجميل عالية فالمكيفات تشتغل على سبيل المثال طوال اليوم والكهرباء مطلوبة على الدوام وكذلك وسائل التعقيم ولا سيما في هذه الأيام.

وهنا لا تنسى كيروز أن تذكّرنا بأمر مهم وهو أن التعقيم موجود في مركزها كما غالبية مراكز التجميل المحترَمة حتى مما قبل «كورونا» و«كل وسائل النظافة كانت متوافرة من ضمن التقديمات ولذا كانت العودة بعد الحجر سهلة نسبياً».«نحن نشعر مع الصبايا والسيدات اللواتي يتعاملن معنا، ونسعى الى مساعدتهن قدر الإمكان»، تقول كيروز «فبدل أن نقدّم مجموعة العناية كاملة مثلاً ننصح السيدة بكريم أو اثنين تحتاجهما فعلاً ضمن برنامج مقبول وفعال. وصرنا نعتمد آلية العروض بشدة عبر وسائل التواصل والإعلام لندفع بالحركة بحيث نوازن بين كريم غالي السعر وآخَر مقبول حتى نصل الى ما تحتاجه السيدة بسعر يناسبها».

ومع ذلك يبقى الاختصارُ سيد الموقف عند السيدات، فهناك أمورٌ لا يمكن التساهل بها نظراً الى تكلفتها العالية مثل مواد التاتو، فيما بعض الإجراءات يحتمل التخفيض مثل «الفايشل». كذلك ثمة إجراءات لا يمكن التهرب منها مهما علا ثمنها، فمَن كان حاجبها مشوّهاً لن تتأفف أبداً بل ستدفع ما يلزم لتصحيح التشوّه.أما المبالغة التي كانت سائدة في السابق فأظن أن الظروف الحالية قد غيّرت مفهومها، وأدركت الكثيرات أنه مهما حاولن التحايل على العمر والمبالغة في التجميل فإن فيروساً واحداً قادراً على إبقاء الناس في بيوتها. لقد أحدث «كورونا» صحوةً بين الناس ونبّههم الى أولوياتهم». وتختم كيروز: «نتعاطى مع خبيرات التجميل من جهة والسيدات من جهة أخرى، ونسعى الى إيجاد توازن بين هذه الدائرة المترابطة. فإذا قدّمنا مستحضراتنا الى خبيرات التجميل بسعر مقبول يستطعن الاستمرار، وبالتالي يزداد الطلب على المستحضرات وتدور العجلة، ومتى حافظْنا على زبائننا نتمكن من الاستمرار ولو بالحد الأدنى ونُرْضي السيدات اللواتي يقطعن في ظروف عصيبة في انتظار ما سيؤول إليه وضع البلد إذ لا يمكن أن يكون التجميل بخير والبلد تحت الأرض».

[01b542b8-8983-4619-b5ca-748302577d2f]جرّاحون بلا عملرغم كل محاولات الاستمرار فإن معاناة قطاع التجميل ليست سهلة. فجرّاحو التجميل مثلاً توقّف عملهم بشكل شبه تام أثناء جائحة كورونا، والمستشفيات ما عادت تستقبل إلا الحالات الطارئة، وكل ما عدا ذلك من جِراحات تم تأجيله ولم يأخذ أي مستشفى أو عيادة خاصة مخاطرة إجراء عملية تجميلية، كما روى لنا أحد جرّاحي التجميل.وحدها بعض الحالات الطارئة الناجمة عن تشوّهات نتيجة حوادث سير أو غيرها تمت معالجتها، أما عدا ذلك فكان شغل الأطباء يقتصر على الرد على بعض الأسئلة اونلاين. «البوتوكس» و«الفيلر» كانت عودتهما أسرع الى الوجوه من عمليات تصغير الأنف أو تكبير الثدي أو شفط الدهون.واليوم يعاني القطاع الطبي مثل غيره صعوبة في شراء المعدات من الخارج بالعملة الصعبة، ولذا فكل عمليات التجميل التي تحتاج الى زرع حشوة أو جهاز ترميمي تتطلّب دفع التكلفة بسعر مرتفع أو انتظارَ المصرف أن يزوّد الراغب بإجرائها بالمبلغ المطلوب. ... قديماً قيل الأرض تهتزّ ولا تقع واليوم نقول قد يتراجع التجميل وتهتزّ أسعاره لكنه لن يخبو، فطالما المرأة موجودة فإن اهتمامها بنفسها وطَلّتها وجمالها سيبقى هاجساً لديها، تقتصد الليرة خلف الليرة من أجل تحقيقه. ومَن يدري فقد يكون التجميل نفط لبنان الذي يعيد إليه سياحته وعزّه الاقتصادي.