| بيروت - من محمد حسن حجازي |
امس الثلاثاء في 13 يناير 2009 مات الاخوان رحباني.
لا لم نخطئ في التعبير.
عاصي مات قبل 27 عاماً. ومنصور مات امس فقط ولم يبق من الثالوث العبقري سوى السيدة الاولى في الغناء فيروز.
مات السيدان... وبقيت السيدة.
لم يفاجأ احد بوفاة الاستاذ الكبير الذي لم يكف عن الكتابة حتى لحظة رحيله.. لانه امضى اخر اسبوعين من حياته في العناية الفائقة في مستشفى اوتيل ديو، بعد مضاعفات صحية عدة ارهقت انفاسه وخارت قواه وغاب عن الوعي.
ابناؤه مروان، غدي واسامة، كانوا يتلقون الاتصالات من الشخصيات، والفنانين والاصحاب ومن الصحافيين الذين رغبوا في زيارته، فكانوا يتمنون عدم تغليب انفسهم لان الاستاذ يرتاح. وخصوصاً ان نقله الى المستشفى حصل في شكل استثنائي وطارئ وسريع على مدى اربع مرات في الاشهر الاخيرة.
وكانت آخر مرة ظهر فيها علناً يوم اضطراره للظهور مع ابنائه الثلاثة والمطربة الشابة هبة طوجي، للكلام عن آخر عمل لهم: «عودة الفينيق». وقد بدا يومها محني الظهر، تعباً، لكن اصراره يومها جعل ابناءه يوافقون على اطلالته وقال لهم يومها وفق ما ابلغنا الفنان اسامه الرحباني: «لازم يكون في بركة ويعرفوا الكل انوا كلنا ايد واحدة يا بابا».
على كل حال كان هذا دأب الراحل دائماً وان كان ابنه مروان يعتبر ان «الفضل في لحمة العائلة وتماسكها الدائم يعود الى الوالدة الراحلة التي كانت مضطرة على الدوام ان تكون الام والاب في غياب الوالد الذي كان يعمل كثيراً ولا يتوقف عن العطاء اطلاقاً، وليل نهار وبالتالي كان ضرورياً ان يكون هناك بديل في المنزل يملأ الفراغ ويدفع بالامور صوب التعويض».
وصاياه لابنائه كانت كثيرة جداً في الفترة الاخيرة التي كان فيها قادراً على الكلام، قال كل شيء، وحتى باح لهم بالكثير مما في قلبه، معتبراً ان عليه البوح بمكنوناته حتى يكون مع روحه مرتاحاً، او متصالحاً فهكذا عودهم اصلاً، لكن الحال الان تتركز على صورة الرجل وبالتالي اراد التعويض عن كل ما فات.
«كثير من الاشياء اللي لازم قولها قلتلكن ياها سابقاً لكن هلق ومع تعبي شايف انو بكرا قادر كون قوي اكثر لاني رح كون مع ناس تانيين».
هذا ما قاله لنا المخرج مروان ونحن نعايده أخيراً بالميلاد ورأس السنة وعندما سألناه عن: (منصور) هكذا يناديه ابناؤه) قال انه يرتاح الان، لكن كلما صحا سأل عنا واحداً واحداً وقال كلاماً خاصاً لنا.
نعرف حالات ليست كثيرة في الفن يكون فيها اخوان متعاونان مع بعضهما في المجال الابداعي. مثل الاخوين تافباني اوكوين في السينما العالمية، لكن لم يحصل ابداً ان تكامل اثنان مثلما حصل مع الراحلين اليوم عاصي ومنصور الرحباني.. بفارق 27 عاماً بين الاثنين بعدما توفي عاصي متأثراً بنزيف اثر انفجار في الدماغ.
كانا ظهرا معاً اواخر الاربعينات.. ولم يكونا فنانين بل شرطيين في بلدية انطلياس، وسرعان ما بدت عليهما امارات الفن، من عزف على البزق، وكتابة بعض الابيات الشعرية، الى احياء سهرات مع الاصحاب، وتطور الامر الى وضع أُسس لنصوص تمثل وتغنى وتجد لها صدى في حياة اهل المنطقة.
وحين سئل الاستاذ منصور مرة.. ما معنى ان توقعا كلاكما على عمل واحد. وكيف علينا معرفة ما قام به منصور، وما قدمه عاصي كان يرد، هذا ليس مهماً، نحن نعمل معاً وهمنا واحد هو ابداع اللحظة والتواصل في هذا المجال حتى بلوغ اسمى وارقى ما يمكن للموسيقى ان تبلغه، خصوصاً بعد العثور على الفنانة صاحبة الموهبة الكبيرة فيروز التي اكملت حمل وابداع الاخوين وشكلت معهما ثلاثياً رائعاً غيّر شكل خريطة الفن العربي منذ اواسط الخمسينات وخصوصاً ان ظهورها جاء في وقت كان العالم العربي باجمعه يميل بقلبه وسمعه صوب القاهرة والحالة المشحونة فيها بكل الكبار من عبد الوهاب، ام كلثوم، ليلى مراد، اسمهان، صباح، فايزة احمد وغيرهم ومع ذلك ذهل الجميع لما تبثه بيروت وتطلقه من فن جديد.
فن ابتكره اخوان تعاونهما الموهبة الخارقة فيروز.
ولم يكتفيا بذلك في مجال الاغنيات المستقلة بل اطلقا اهم المسرحيات منذ العام 1956 وحتى اليوم 1982 يوم مات عاصي واكمل منصور الطريق متعاوناً مع اولاده في 12 عملاً مسرحياً اخرها «عودة الفينيق».
ربما يضيق المجال هنا لعرض الانجازات كافة التي حققها الاخوان العبقريان. لكن هذا لا يمنع من التوقف عند ما انجزاه، وما استطاعاه فما فعلاه كان ثنائياً نعم، لكنه كان يعني كلاً منهما مستقلاً على حدة. بدءاً من البعلبكية وارتباطهما بالمكان لسنوات طويلة حيث قدما اعمالاً اختصرت تاريخ لبنان، لا بل ان المراقب يدرك كم حاول الاخوان ان يبنيا او يؤسسا وطناً يحمل اسمهما، وطن الرحابنة. ولا يستطيع احد ان ينكر ذلك ابداً مؤيداً كان ام معارضاً على امتداد الوطن اللبناني، الى حد دعوة كثيرين لاجراء استفتاء على هذا الوطن، على صورته وعمق معناه. طالما ان سنوات الحرب الـ 15 الاولى، وما تلاها من جولات اكدت على ذلك واظهرت ان كل المنابر الاعلامية خصوصاً الاذاعية ولاحقاً التلفزيونية كانت تعتمد على الاغنيات والمقاطع الغنائية والحوارية بما يعني ان الكل يفكر بلبنان بالطريقة نفسها، يعني ان ما اطلقه الاخوان عاصي ومنصور من افكار ومناخات وصور كانت كل تصب في خانة واحدة، بما يوحد ويعطي صورة عن بلد متماسك.
وكل الاعمال التي كتباها ونفذاها معاً تظل في البال، من دون نسيان ركن متميز في المسيرة هو الراحل نصري شمس الدين الذي شكل في حياته نصف المسرح الرحباني عندما يتم التقييم لما قدماه على مدى حياتهما.
قيل كان عاصي يلحن اكثر مما يكتب، وان منصور يكتب اكثر مما يلحن، وحين سألنا الاستاذ منصور عن هذه المقولة بادرنا حرفياً: «للأسف هناك مشكلة عند النقاد قبل الناس العاديين، ماذا قدم عاصي وماذا قدم منصور سيظل سر أعمالنا وخلودها معنا نحن، لم يصدق احد اننا نعمل معاً، نلحن معاً، نكتب معاً نقول معاً. كنا واحداً في اثنين وإثنين في واحد».
ونحن مع هذا الكلام مئة في المئة.
وكثيراً ما كان السؤال يطرح لماذا تلجأون الى التاريخ دائماً أهو خوف من الحاضر، من ردات الفعل، من التسمية؟ وكان يضحك ويقول: «يا حبيبي هذا مفتاح عملنا، ان افضل قراءة للحاضر هي فتح كتاب التاريخ. وعندها ستكون هناك حقيقة واحدة لا عدة حقائق او نظريات، اطلاقاً هناك شأن متميز جداً يتعلق بالحاجة الى اعتبار ان التاريخ يقدم امثولة، يقدم مادة سهلة لنا فلماذا لا نأخذ بها ونبني عليها، لا نحن شجعان لا نهاب الحاضر، لكننا نريد قراءة صحيحة لما نحن عليه، وهذا لا يتحقق الا بالتاريخ».
واذا كنا نلاحظ من وقت لآخر ان الاستاذ منصور يعمل كثيراً، يكتب، يضع ملاحظات، يقرأ، يناقش، يقوم بأموره الخاصة، فانه حين سألناه مرة ما الذي يكتبه الآن، بادرنا: «لا شيء».
وعندما ألححنا عليه رد: «ابداً انا اتكاسل».
ولم نصدق، فقلنا كيف؟ قال: «الدماغ عندما يتعب علينا تركه. عندها يشحن نفسه ويبدأ في ضخ الابداعات التي يكون قادراً عليها اصلاً».
اشتغل قبل رحيله بأشهر على سيناريو فيلم «سيلينا» مع نجله الفنان غدي الرحباني، واقتبسا مسرحية «هالة والملك»، لكي يخرجها حاتم علي وانتاج نادر اتاسي منتج اعمال الرحابنة السينمائية المعروفة: سفر برلك، بنت الحارس، بياع الخواتم، مع المخرجين هنري بركات ويوسف شاهين.
وبعدما بات التصوير في مراحله الاخيرة اصدر الاستاذ منصور بياناً اعلن عدم رضاه عن اعادة توزيع موسيقى العمل، وأنه لن يكون راضياً بعدها، محذراً من الاستمرار في هذا الوضع، لكن الفيلم أنجز، وهو مرشح للسفر الى عدد من المهرجانات بينها «كان».
منصور الرحباني لم يحتضن اولاده فنياً لدعمهم فقط، بل تعاون معهم، ووضع خبرته بين ايديهم وهم اضافوا من هذا العصر ما يليق بأن يتجانس مع قيمة ما كان الاخوان الكبيران قاما به.
يعني كانت الفكرة تطرأ على رأس الفنان اسامة الرحباني فنجد سريعاً ان الاستاذ منصور يبادر ويكتبها سواء في «آخر يوم»، او «عودة الفينيق»، او حتى «النبي»، وهكذا مثل «وقام في اليوم الثالث».