وكأنه بركانٌ انفجر في لبنان، حِمَمُهُ الأسعار التي ارتفعتْ بشكل جنوني مع السقوط المريع لليرة أمام الدولار (ناهزت 4 آلاف للدولار)، على وقع انهيارٍ مالي غير مسبوق فاقَمَه «كورونا» وإجراءات التعبئة العامة التي عمّقت «الجراح» الاقتصادية وفقدان الوظائف أو حسْم أجزاء من الرواتب. لقمة الطبقة المتوسطة في خطَر فكيف بحال الفقراء... اللحوم تنافس الذهَب بالأسعار والخضار ليست أفضل حال.كيلو اللحم الغنم بـ 50 ألف ليرة بعدما كان 25 ألفاً، والبقر بـ 30 ألف ليرة بعدما كان 15 ألفاً... كيلو البندورة بـ 4000 بعدما كان 1500 ليرة وكذلك الحامض، أما الخسة فارتفع سعرها من ألف ليرة الى 4250 ليرة، وكيس العدس من 3000 ليرة الى 6750 ليرة، وكيلو الرز من الألفين الى 4000 ليرة، علبة اللبنة وصلت الى 7000 ليرة بعدما كانت 3750 ليرة... هذه لمحة بسيطة عن أسعار المواد الغذائية، إلا أن الأمر يطال كل السلع من أدوات التنظيف الى الحلويات والحاجيات الخاصة بالأطفال من حليب وحفاضات (بعضها ارتفع بين ليلة وضحاها من 44 ألف ليرة إلى 80 ألفاً) وغيرها التي باتت أسعارُها تتحرّك وفق «بورصة» حارقة لأعصاب اللبنانيين وجيوبهم الفارغة مع الانخفاض المتسارع في القدرة الشرائية للرواتب في بلدٍ بات الحدّ الأدنى للأجور فيه يناهز 169 دولاراً. «إلى الطبْخات التي لا تحتاج إلى اللحوم ألجأ، كالبرغل ببندورة، والمدردرة والمجردة، وأحاول جاهدة مرة في الأسبوع شراء وقية ونصف الوقية من اللحم لإعداد طبخة لمدة يومين، فالاوضاع المادية صعبة والأسعار لا يستوعبها عقل، ولديّ ولدان يحتاجان الى تنوّع في الغذاء»، بحسب ما قالته سميرة الحاج لـ «الراي» شارحة: «زوجي سائق سيارة أجرة انخفض مدخوله بشكل كبير بسبب إجراءات الحجر المنزلي. ومع ارتفاع الأسعار أصبحت الطبخة تكلّف كمعدل وسطي 30 ألف ليرة وهو مبلغ يفوق ما يجنيه زوجي في اليوم، هذا عدا عن باقي المصاريف، فكيف لنا أن نكمل العيش على ذات الحال»؟!كما عائلة الحاج، أيضاً حال العائلات اللبنانية من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، حيث أكدتْ منى منيمنة أن الذهاب إلى السوبرماركت بات يقلقها «فكلما أردتُ شراء سلعة أنظر الى سعرها فتصيبني الصدمة، أقارنه بالسعر القديم أجد مدى الفارق الرهيب، وأكثر من نصف ما أحتاجه لا أشتريه وأعود أدراجي وأنا مصابة بوجع في الرأس»، مضيفة: «أعمل في محل لبيع الملابس منذ شهرين من دون راتب، وزوجي عاطل عن العمل، لدينا طفلان»، وختمت: «اللحم بات من الماضي بالنسبة لنا، فحتى العدس والبرغل، طعام الفقير، أخشى أن يأتي يوم لا نملك ثمنه، ولا أعلم في أي نفق مظلم دخلْنا على أمل أن نخرج منه عما قريب».في السوبرماركت، لم يعد غريباً رؤية زبائن «يتحدّثون» مع الرفوف يشكون الأسعار «النار»، وفي عيونهم الدهشة وألف غَصة ودمعة... هنا لا مكان لـ «أحلام الإنقاذ» و«الأيام التاريخية» و«الخطط المبارَكة»، ولا طاقة على انتظار مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فـ «الجمرة لا تحرق إلا مكانها»... مواطنون سرعان ما يتشاركون الوجع العلني أمام منتجاتٍ صارت غالبيتها صعبة المنال ويتبادلون «الاستراتيجيات البديلة» لتسوُّق أقلّ تكلفة وبسلعِ أقرب ما تكون جودتها إلى «الهدف الأساسي» الذي... «طار». وفيما عكست توقعات البنك الدولي بأن تصل نسبة اللبنانيين تحت خط الفقر إلى 52 بالمئة نهاية 2020 سودويةَ الواقع في «بلاد الأرز»، لاقتْه «جمعية المستهلك» اللبنانية التي كشفتْ في آخِر تقرير لها صدر في الأول من ابريل الماضي أن «سجل تطور أسعار السلع والمواد الغذائية أظهر منذ 15 فبراير الى 31 مارس 2020 ارتفاعاً بلغ 13.17 بالمئة، أي أن أسعار هذه السلع والخدمات ذات الاستهلاك اليومي للعائلات ارتفع ما مجموعه منذ 17 اكتوبر 2019 نحو 58.43».إلا أن رئيس الجمعية زهير برّو أكد لـ «الراي» أن «الارتفاع الآن اقترب من حدود المئة بالمئة. وإن كان من الصعب تحديد الرقم قبل استقرار الوضع ولو لأسبوع كي نضع حسابات دقيقة، فالأسعار ترتفع بشكل يومي، وكل بائع يحدد السعر الذي يحلو له، فلم يعد هناك مقياس منذ 17 اكتوبر 2019 بداية الازمة».الأسعار لم تعد مرتبطة بحسب ما قاله برّو «باقتصاد حقيقي بل بسعر صرف الدولار والاحتكارات المسيطرة على السوق، وما يزيد الطين بلّة أن هناك تجّاراً يحدّدون أسعارهم على سعر صرف 5000 و6000 ليرة للدولار في محاولة لاستباق الأمور خوفاً من فقدان الليرة اللبنانية قيمتها الشرائية بشكل أكبر، ويترافق ذلك مع وقف العديد من التجار لأعمالهم، بينهم عدد من بائعي اللحوم حيث خسارتهم كبيرة، إذ ان 90 بالمئة من اللحوم مستورَدة أي سعرها بالدولار، وبعدما كان كيلو لحم البقر يباع في المناطق الشعبية بمعدل 15 الف ليرة أصبح سعره اليوم يراوح بين 30 إلى 35 الف ليرة، مع العلم أن الدولار ارتفع بنحو 150 بالمئة أي عملياً مرتين ونصف، ما يعني أن سعر كيلو لحم البقر بحسب ارتفاع الدولار يفترض أن يكون بحدود 40 ألف ليرة، وهذا الفارق هو خسارة على البائع ولا سيما أنه يشتري كيلو اللحمة مع العظام من المستورد الكبير بـ 22 الف ليرة».«تكلفة صحن الفتوش لأربعة أشخاص يصل إلى 18 ألف ليرة»، أما السبب بحسب برّو فـ «لجوء قسم كبير من المزارعين والتجار الى تصديرها للخارج من أجل الحصول على الدولار، وذلك بعد احتجاز أموالهم في الأسواق، إضافة الى توقف التجار والشركات عن إعطاء القروض للمزارعين ما حال دون زراعتهم بشكل كاف».وعن تقييمه لدور وزارة الاقتصاد اجاب برّو: «تعالج المشكلة بطريقة خاطئة، فمَحاضر الضبط لتجار المفرّق ليست كافية كون المشكلة الرئيسية تكمن في الاحتكارات وسيطرة التجار الكبار على البلد، لذلك يجب الغاء القانون 34/1967 الذي يحمي الاحتكارات وإقرار قانون سبق أن عملنا عليه منذ سنوات مع البنك الدولي يقوم على المنافسة، لكن للأسف ترفضه السلطة السياسية، مع العلم أننا الدولة الوحيدة في العالم التي لديها قانون يحمي الاحتكارات»، وختم: «30 بالمئة من الموظفين حافظوا على أجورهم، أما البقية ففقدوا إما نصفها أو جزءاً منها أو كاملها، هناك خوف حقيقي لدى الشعب، دخلْنا في المجاعة إلا أنها لم تُكرّس والآتي أعظم، مَن معه مال بدأ ينْفذ، الدولار إلى ارتفاع، نحن أمام مأساة».من جانبها اعتبرت مديرة عام وزارة الاقتصاد عليا عباس عبر «الراي» ان «هناك ارتفاعاً مبرَّراً للأسعار في ظل الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار، إلا أن ذلك لا ينفي الجشع لدى بعض البائعين الذين يهدفون الى جني الثروات مستغلين الظرف الاستثنائي» وشرحت: «ننام على سعر صرف للدولار ونستيقظ على سعر آخَر، في ظل وجود عدة أسواق وشحّ الدولار، كما أن 90 بالمئة من استهلاكنا مستورَد»، مؤكدة «أن الوزارة تقوم بكل ما يسمح لها القانون لضبط الوضع، وبحسب الصلاحيات المعطاة لنا نسطّر مَحاضر ضبط ونرسلها الى القضاء الذي يحدد العقوبة، وهذا ما يجعل دورنا غير فعّال، فالعقوبة غير الفورية لا ترْدع المُخالفين».«السلسلة تبدأ من الاستيراد حتى المستهلك، لذلك ستعمل الوزارة على التدقيق بفواتير المستوردين عبر الجمارك، لمعرفة أسعار الاستيراد ومدى الربح وفيما إن كان يُستغل المواطن»، قالت عباس، قبل أن تضيف: «في العادة صلاحيتنا حماية المستهلك النهائي، لكن المستورد إذا باع تاجر الجملة او تاجر نصف الجملة بسعر مرتفع، سينعكس الأمر على المستهلك النهائي». وعن الاحتكارات علّقت «نحن نكافح الاحتكار حين يظهر ان لدى التاجر بضائع يرفض بيعها فهذا عمل غير مشروع، وما لاحظناه في الأسواق أن التجار يخشون بيع بضائعهم مخافة ارتفاع سعر صرف الدولار وخسارة رأسمالهم، مع أنه وقت تَضامُن مع بعضنا البعض وعدم التفكير في الثروات».