السياسة الخارجية اللبنانية كانت ولا تزال موضع انقسام بين اللبنانيين، إذ تحكمت بها الإنقسامات المحلية والتأثيرات الخارجية التي بقيت العنصر الأبرز في تحديد معالمها وصولاً إلى إلغائها في ذروة حقبة الوصاية على لبنان واستلحاقها بالسياسة الخارجية السورية.لقد تعّدد اللاعبون الإقليميون وتنوعت هوياتهم بما يتلاءم طبعاً مع مصالحهم في لحظة سياسية ما. وإذا كان التعثر في رسم السياسة الخارجية بدأ منذ ما سُّمي «الميثاق الوطني» عبر تخلي قسم من اللبنانيين عن المطالبة بالحماية الفرنسية مقابل تخلي القسم الآخر عن المطالبة بالوحدة العربية؛ فإن هذا التعثر القائم على النفي المتبادل استمر ولو بأشكال مختلفة في حقبات تالية.لا بل يمكن القول إن سياسة النفي المتبادل، كرّست نفسها في صلب المعادلة اللبنانية، حتى الداخلية منها، وهي حلت محل سياسة المساحة المشتركة التي كان يفترض بلورتها بين اللبنانيين. هذا يعني استبدال الإلغاء والإلغاء المضاد لما له من تداعيات سلبية لا بل عنفية أحياناً بسياسة المراكمة على المشترك بين اللبنانيين وتطويره.بطبيعة الحال، ليس المطلوب الدخول في تمرين نظري، بما يتيح تركيب بعض المسلمات التاريخية أو يعيد صياغتها بشكل يتناسب مع طموحات اللبنانيين وتطلعاتهم، ولكن المؤسف أن الأمر الراهن لا يزال على حاله لا بل أصبح أكثر سوءاً مع المغامرات التي تمارسها بعض القوى السياسية عبر تلاعبها المتواصل بالتوازنات الداخلية مع كل ما يتركه ذلك من تداعيات وإشكاليات.لقد أدى التضييق المتلاحق المطلوب (أقله مرحلياً) بين الخطاب الرسمي و«خطاب المقاومة» إلى تقهقر علاقات لبنان الخارجية لا سيما العربية منها. ولا تكفي الإشارة إلى الاحتضان العربي لمئات الآلاف من اللبنانيين تاريخياً، رغم أهمية هذا الأمر ورمزيته وولادته الكبيرة مقارنةً مع ضحالته لدى لاعبين إقليميين آخرين؛ إلا أن الاهم هو هوية لبنان العربية التي حسمها اتفاق الطائف وتكرست في الدستور، مع التذكير أن لبنان كان عضوا مؤسسا وفاعلا في الجامعة العربية.إن هذا الالتصاق التام الذي تبلور في عهد الرئيس ميشال عون بين الخطابين، دمر علاقات لبنان الخارجية، فبعد أن كان الرئيس اللبناني يتحدث باسم العرب جميعاً أمام الأمم المتحدة (الرئيس الراحل سليمان فرنجية في السبعينات) صارت لقاءات الرئيس اللبناني في نيويورك تقتصر على لقاء يتيم مع الرئيس الايراني وقوفاً!لقد سبق أن وعد رئيس الجمهورية اللبنانيين بفتح النقاش حول الإستراتيجية الدفاعية بعد إنجاز الانتخابات النيابية، ثم نكث بوعوده قائلاً إن لا لزوم لها. كان باستطاعة العماد ميشال عون عندما كان رئيساً لتكتل التغيير والاصلاح التأكيد اليومي على دعمه لسياسات طرف معين (حتى ولو عاكس كل أدبياته السابقة) ومواقفه وهذا حقه الديموقراطي، لكن بعد وصوله إلى رئاسة الجمهورية صار كلامه يمثل الدولة ويترتب عليه نتائج وتداعيات خصوصاً على مستوى علاقات لبنان الخارجية.موقف مجموعة الدعم الدولية للبنان حاسم لناحية الاصرار على سياسة النأي بالنفس واحترام قرارات الشرعية الدولية. وواضح أن المواقف السياسية المعلنة للعهد وتياره السياسي لا تتطابق مع هذا الخيار، أقله تضمر عكس ما تعلن... ولا بد من الاعتراف بأن ثمة إشكالية تقليدية عميقة تتصل بآليات صنع السياسة الخارجية على الانقسامات السياسية الداخلية والتشظي البالغ الذي تعانيه هذه السياسة جراء القصور عن بناء رؤية واضحة تحاكي المتغيرات والتحولات الكبيرة التي شهدتها وستشهدها المنطقة العربية والشرق الأوسط.لقد آن الأوان لفتح نقاش وطني جدي حول السياسة الخارجية بما يسمح باستعادة دور لبنان المفقود الذي تتلاطمه الأطراف الخارجية وفقاً لمصالحها وحساباتها. فبدلاً من الحماس الزائد لاستضافة حوارات فولكلورية حول أسس الحوار والتلاقي كالتي يسعى إليها رئيس الجمهورية، حرّي به فتح الحوار الداخلي حول القضايا الخلافية وفي طليعتها السياسة الخارجية والخطة الدفاعية وإلغاء الطائفية السياسية.ألم ينص الدستور على إنشاء الهيئة الوطنية المولجة نقاش آليات المباشرة بإلغاء الطائفية السياسية؟ إن المطلوب خطوات سريعة وحثيثة تعيد الاعتبار لدور لبنان وموقعه وتؤسس لترميم علاقاته الخارجية التي تدهورت وتردت بفعل بعض السياسات غير المسؤولة التي وصلت إلى حد إلغاء الصراع العقائدي مع إسرائيل وإقرار حقها «العيش بسلام». هكذا مجاناً ومن دون أي قراءة تاريخية لمجريات الصراع العربي - الإسرائيلي ومنعطفاته الأساسية والمفصلية؛ ووصلت في مجال آخر لوضع لبنان في مواجهة المجتمع الدولي وهيئاته ومؤسساته في ملف النازحين... إنها الشعبوية في السياسة الخارجية!