يفتح الدخولُ الوشيك لبعثةٍ من صندوق النقد الدولي، على خط تقديم الدعم التقني والاستشاري للحكومة اللبنانية، كوّةً صغيرةً في الجدار السميك لسلسلة الأزمات المترابطة التي تعانيها البلاد، وتُنْذِرُ ببلوغِ محطة الفشل المالي التام للدولة، والتسبب بسقوط مريع للهيكل وتَحَطُّم أعمدته الاقتصادية والمالية والنقدية، وسط انحدارٍ سريع وغير مسبوق في الأوضاع الاجتماعية والمعيشية.ولكن الآمال الحقيقية ليست معلّقة على مهمة بعثة الصندوق، وارتكازها على معايير مهنية تحت المجهر الدولي، وفق ما تتشارك به آراء اقتصاديين وخبراء يواكبون تحركات الحكومة، ويشاركون في بعض الاجتماعات ذات الصلة. ويعد سجلّ لبنان في التزام برامج الإصلاح غير مشجع البتة، وهنا يكمن السرّ في مدى توقع يقظة المسؤولين والتزام المسؤوليات بعد إهدار فرص ذهبية، وآخِرها إضاعة وقت طويل (يكمل عامه الثاني بعد شهرين)، في إظهار أي استجابةٍ ولو محدودة لالتزامِ برنامجٍ إصلاحي مالي وإداري، تقدّمتْ به الحكومةُ قبل السابقة الى مؤتمر «سيدر» (ابريل 2018)، وتمت برْمجة بدايته كمقدمةٍ لأزمةٍ لانسياب التزاماتٍ عربية ودولية بضخّ نحو 11.2 مليار دولار، كقروض ميسّرة يتم استخدامها ضمن خطة إعادة تأهيل البنى التحتية وتحديثها، وتمويل مشاريع إنمائية واجتماعية جديدة.

تحول مهموفي قراءةٍ خاصةٍ لـ«الراي»، يعتبر الخبير الاقتصادي والمالي، الدكتور جو سروع، أن مسارعة الحكومة الجديدة الى الاستعانة المعلنة بخبراء الصندوق وخبراتهم، يمثّل تحولاً مهماً في مقاربة عمْق الأزمات العاتية التي بَلَغَها الاقتصادُ اللبناني. ويشير إلى أن المؤسسة الدولية متحرّرة أصلاً من الأهواء والارتباطات المحلية، ما يمنح مداخلاتها قوةَ دفْعٍ معنوية كبيرة لتمكين الفريق الاقتصادي، من معاودة توصيف الأسباب الحقيقية للمشاكل المتراكمة، وفي اقتراح خطط المقاربة الآنية والمعالجات على المدييْن المتوسط والأبعد أَجَلاً، وهو نقْصٌ مزمنٌ في إدارة البلاد خلال العقود الثلاثة الماضية، وعقب حروبٍ متنوّعة على مدى 15 عاماً.ويلفت سروع الى «أن مشورة الصندوق ليست طارئة، فلطالما تقدّم فريقه (المادة 4) بتقارير دورية تتّسم بالموضوعية، وتحذّر بوضوح تام من الخيارات التي تتبعها الإدارة المالية للبلاد، منوهاً بأنه وكون الأوضاع انفجرتْ وزادت سوءاً في انعكاساتها على كل الصعد، فالمرتقب أن تكون المشورة أشدّ حزماً وأن يتم بلورة اقتراحات أكثر ايلاماً». ورأى أنه ليس من المبالغة الاستنتاج بأن أي إهمالٍ جديدٍ لهذا الدعم الفني والاستشاري، سيقود إلى تزخيم متواليات الانهيارات الكبيرة، بدءاً من لقمة العيش ووصولاً الى تبديد ما تبقى من مدّخرات الناس، وانسداد قنوات الموارد المالية للدولة.وأشار سروع إلى التناقض الصارخ بين مسألتين، الأولى سوء إدارة المالية العامة عبر تغييب قانون الموازنة العامة لمدة 11 عاماً متتالية، وإقرار قوانين غير متوازنة في الأعوام التالية ولا تستند الى قطع حسابات السنوات السابقة والمودَعة حالياً لدى ديوان المحاسبة العاجز عن التعجيل في البت بها متذرعاً بنقص عديد. وذكر أنه بمعزل عن المداخلات ذات الطابع الشعبوي، فإن تخطي عقبة استحقاق سندات دين دولية هذه السنة بقيمة 2.5 مليار دولار (أوّلها في 9 مارس بقيمة 1.2 مليار دولار)، عبر آلياتٍ مرنةٍ يمكن لوزارة المال والبنك المركزي التفاوض بشأنها مباشرة مع الدائنين، وغالبيتهم مؤسسات مالية درجت على الاستثمار في الأوراق المالية اللبنانية، من شأنه أن يمنح الحكومةَ فرصةً إيجابية وأقلّ صخباً ومُعزَّزَةً بمشورة خبراء الصندوق وخارج «الضغوط السوقية»، لإعداد مخطط متكامل لإعادة هيكلة كامل محفظة الديون بالعملات التي تناهز 30 مليار دولار، يرجّح أن ثلثها محمول من مؤسسات خارجية، في ما تحمل المصارف المحلية أقلّ قليلاً من نصفها، والباقي بحوزة «المركزي».

مصدر هلعوإذا كانت «سُمْعَةُ» الصندوق ووصفاته يشكلون مصدر هلع في البلدان التي تستنجد به، نظراً لتركيزه التقليدي على تحرير سعر صرف النقد الوطني، ورفْع كل أشكال الدعم عن السلع الأساسية، وتعزيز الضرائب وتقليص حجم العمالة في القطاع الحكومي وتخصيص المرافق العامة، فإن ما حصل في لبنان خلال أشهر قليلة، بحسب اقتصاديين وخبراء، استنفذ مسبقاً جدوى مثل هذه التدابير. فحاجة البلاد تتّسم بالعجلة والالحاح الى برنامجِ دعمٍ مالي وفوري، قدّره خبراء بما لا يقلّ عن 25 مليار دولار لمعالجة «الثقوب» المظلمة في المالية العامة والبنك المركزي، وضخّ رساميل في المصارف، على أن يتم حصْر العمليات بمخزون الاحتياطات القابلة للاستخدام لتغطية مستوردات السلع الأساسية، وبالتحديد القمح والادوية والمستلزمات الطبية والمحروقات.وهنا يتوجب اتخاذُ قراراتٍ جريئة ومؤلمة لخفْض كلفة القطاع العام وتقديماته للموظفين والمتقاعدين، والتي تناهز حالياً 6.5 مليار دولار، مقابل جفافٍ غير مسبوق في إيرادات الموازنة وقنواتها الرئيسية، يرجّح أن تصل نسبتُه إلى ما بين 40 و50 في المئة وفق التقديرات المتفائلة، وسط تَفاقُم أزمات القطاع الخاص وتدنّي المداخيل والمدّخرات في البنوك.ومع أهمية التنويه بأن برامج الصندوق، تتخذ صفة الشراكة والإلزامية على الدول التي تطلب المعونة المالية، فهو يتطوع غالباً بإيفاد خبرائه للدعم التقني والاستشاري إلى البلدان الأعضاء، وهو ما تنفّذه في بيروت بعثتُه بموجب المادة الرابعة منذ سنوات.

فجوات بنيويةويعتبر المستجدّ في أن الخبراء، الذين قدّموا تقريرهم الأحدث قبل أشهر، سيعاينون هذه المرة عن كثب حقيقةَ ما أماطت ثورة 17 أكتوبر اللثام عنه، من فجواتٍ بنيوية مستعصية لم يتوسعوا في وصْفها والتحذير من خطورتها في تقريرهم، وهي تبدأ بتفشي الفساد الذي ينْخر كل مَفاصل الإدارة العامة والمعاملات المالية والتجارية، ولا تنتهي بتركيبةٍ مُمَوَّهَةٍ لحقيقةِ أرقام الدين العام، بحيث «ترهن» المصارف ما يزيد على 80 مليار دولار من ودائع الزبائن لدى البنك المركزي، الذي يجاهر بأن احتياطه من العملات يبلغ 30 مليار دولار تكفي بالكاد لتغطية تمويل السلع الأساسية المستوردة.ويأتي ذلك في وقت يناهز الدين العام لدى وزارة المال 90 مليار دولار، وتنوء المصارف بتأمين بين 600 وألف دولار شهرياً لزبائنها.ومن المؤكد أنه ليس بوسع أي مؤسسة إقليمية أو دولية «الإفتاء»، بإعادة التموْضع السابق للبلاد واقتصادها، وبلوغ الترف درجةَ منْحِ القطاع العام سلسلةَ رتبٍ ورواتب بكلفة إضافية تخطت ملياري دولار سنوياً بدءاً من خريف 2017، وبتضخيمِ حجم التوظيف في القطاع عيْنه بالآلاف سنوياً، ضمن محاصصات ومصالح انتخابية وخارج أي ضوابط وخلافاً لقوانين وتوصيات منْع التوظيف. وفي المقابل، تبرز تداعيات الأزمة في كل قطاعات الإنتاج، إذ ينضمّ عشرات الآلاف شهرياً إلى مجموعات البطالة التامة أو الجزئية، وتنحدر تباعاً منظومة التغطية الصحية والاستشفائية والاجتماعية.ويؤكد المتحدّث باسم صندوق النقد الدولي جيري رايس، أن لبنان يحتاج إلى إجراء سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية لزيادة الثقة، واحتواء التضخم في الوقت الذي يتحرّك فيه لدعم اقتصاده.ولفت إلى أن لبنان كان قد طلب مساعدة فنية من الصندوق، لكنه لم يطلب أي مساعدة مالية، منبهاً بأنه سيتوجب أن يكون اتخاذ الحكومة اللبنانية أي قرارات بشأن إعادة هيكلة الدين بالتشاور مع الدائنين، وبأنه لا يوجد أي دور لصندوق النقد الدولي في ذلك. وأكد أن الصندوق على استعداد لمساعدة السلطات اللبنانية في عملها، على حزمةٍ مطلوبة من الاصلاحات الاقتصادية والهيكلية الضرورية للتعامل مع مشكلة ثقة الجمهور. وأضاف رايس «شعورُنا حيال ما تحتاج السلطات اللبنانية للقيام به، هو حزمة من الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية».

إصلاحات ملموسةفي سياق متصل كانت مجموعة الدعم الدولية، دعت الحكومة الجديدة عقب نيلها الثقة (يوم الثلاثاء الماضي)، الى اتخاذ مجموعة من التدابير، والإصلاحات الملموسة وذات الصدقية والشاملة، بسرعة وبشكل حازم لوقف ومعاكسة الأزمات المتفاقمة، ولتلبية احتياجات ومطالب الشعب اللبناني. وشددت على أهمية العمل من أجل استعادة ثقة الشعب اللبناني والمجتمع الدولي، وتفعيل المساعدات الدولية المستقبلية للبنان.وناشدتْ المجموعة جميع القوى السياسية والقادة اللبنانيين، إعطاء الأولوية لدعم الإصلاحات التي تصبّ في المصلحة الوطنية ومصلحة الشعب والبلاد. وعاودت تأكيد استعدادها لدعم لبنان في الوقت الذي يبذل فيه الجهود لاستعادة الاستقرار الاقتصادي وصدقية القطاع المالي، ومراجعة موازنة 2020 بشكل نقدي يضمن الاستدامة، وتنفيذ الإصلاحات القطاعية الرئيسية مثل قطاع الطاقة، وإصلاح المؤسسات التابعة للدولة لضمان الكفاءة ومصلحة المستهلك، وإقرار وتنفيذ قوانين مشتريات فاعلة. وجددت المجموعة استعدادها لدعم الجهود الموثّقة لقادة الحكومة، من أجل محاربة الفساد والتهرب الضريبي، بما في ذلك اعتماد وتطبيق الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وقانون هيئة مكافحة الفساد وإصلاح القضاء، إضافة إلى غيرها من التدابير الضامنة لإقرار تغييرات ملموسة في إطار الشفافية والمساءلة الكاملة، مع تكرار تشديدها على الحاجة إلى الاستقرار الداخلي، وحماية حق التظاهر السلمي.