| علي الرز |
انا تمثال في وسط بيروت. سنة مرت وانفاسي مخطوفة، هتافات ودبكة وطرب وشيشة وترمس وكعك وحمامات مركبة ومشويات «تيك اواي» وتنظير... سنة كاملة مرت وقلبي معطل بالثلث المعطل، مفصول عن وسطه بأجهزة امنية، مفتوح الجراح تنزف يوميا شعارات مسمومة ومفهومة.قبل اكثر من عام، سمعت من الرئيس السوري ان الغالبية اللبنانية يجب ان تسقط لانها منتج اسرائيلي، حضرت نفسي للاستحقاق الشعبي الذي هلت طلائعه بزوار الفجر والانضباط والخيم والميكروفونات والباصات، ورغم انني عريق في السياسة وتعاملت مع تفاصيلها بالشكل المطلوب الا انني لم ار في حياتي كلها هذا المزيج الغريب العجيب من التحرك والتحالف والاهداف الملتبسة، والاهم انني لم اتوقع ابدا انني سأمضي كل هذا الوقت عقوبة الاستماع الى الهتافات والاغاني والشعارات... الى الدرجة التي تمنيت ان انتقل كتمثال الى قرية نائية اقابل فيها المناظر الطبيعية لا المصطنعة.«الغالبية يجب ان تسقط والرئيس فؤاد السنيورة عبد مأمور لعبد مأمور»... قالها رجل واحد ثم ترجمها الآلاف نشيدا وطنيا:«اي ويللا السنيورة يطلع بره»هذا هو الشعار، اما الاخراج فهو:« قوم تحرك يا شعبي... غيّر ها الحال الصعبةقوم تحرر ما تتأخر... هايدي حقوقك مش لعبة».العملية عملية تحرر وتغيير «مش لعبة»، لذلك لا بد من تحالف «تاريخي» كي تنطلق. «حزب الله» واعلامه صفراء وحركة «امل» واعلامها خضراء وتيار الجنرال ميشال عون واعلامه برتقالية اضافة الى بعض التكتلات السياسية من مختلف الطوائف واعلامها ملونة لكنها قصيرة وقاصرة مقارنة بالاساسيين... وعلى قياس الاعلام كانت «اللازمة» التي ركزت على هوية المتحركين: «أصفر أخضر ليموني بدنا نسقط الحكومة».يختل السلم الموسيقي قليلا بين الحشود فالكورس ينشد: «كلنا لبنانية... بالدم وبالهوية... شيعة وسنّية ودروز... إسلام ومسيحية». لكن المطربين الاساسيين يعودون فورا الى تحديد المرجعيات لانهم لا يلعبون بقضية الموضوعية: «لا إله إلا الله عون وبري ونصر الله»، و»ما بدنا طائفية حزب وحركة وعونية»، و«طاق طاق طاقية حزب وحركة وعونية»، و«هللي هللي هللي نصر الله وعون وبري».وحتى يتحرك «الشعب» كما يجب لا بد من عوامل تحفيز واستنهاض، فبالنسبة الى الحزب كانت القبضات مرتفعة والحناجر تصرخ: «الله... نصر الله... والضاحية كلها»، اما العونيون فغنوا: «لح نبقى هون مهما العالم قالوا، راعبهم عون وبيخافوا من خيالو»، فيما فضل «الحركيون» الاسلوب المباشر: «ويا سنيورة فلّ اليوم برّي أعطى أمرو اليوم»... لكن الشعار الديني الذي رفع في اكثر من مخيم عكس طبيعة التحالف السياسي الحقيقي حين استثنى من «الحماية» احد اركان الثالوث فكتب المنظمون: «العذراء (السيدة مريم) تحميك يا سيّد وزهراء (السيدة فاطمة الزهراء) تحميك يا جنرال». ثم ظهرت لافتات اخرى تقول «نحن، حزب الله والتيار، أهل تاريخ مشرف لا عمالة فيه ولا عمولة» لتنحصر «النظافة» والتاريخ المشرف بالحزب والتيار، ثم فجأة تصدح الحناجر لاغية دور التيار ايضا: «قومي يا شيعة قومي حتى نسقط الحكومة».وبما اني تمثال من جماد لا يفهم الا ظاهر الاشياء ويمكن ان اكون تأثرت بالدعاية المغرضة للغالبية، قررت ألا افكر الا بالمعلن فقط والابتعاد عن تحميل شعار من هنا او هناك اكثر مما يحتمل... والاستمتاع بعقوبة الاستماع الى الاغاني خصوصا بعدما تحددت الاهداف واستقامت التحالفات وبدأ الانتشار في الساحات.في البداية، كان لا بد من استخدام مصطلحات التكنولوجيا الحديثة التي وردت ايضا في خطابات «رئاسية»: «زوم إن زوم أوت... يا سنيورة طلاع آوت».يطلع «آوت» لانه لا يرأس حكومة لبنان بل «حكومة السفير الاميركي جيفري فلتمان» و«الحكومة الحكيمة ما بتنطر التعليمة». و«بنرفض هايدي الحكومة... بيديروها الأمريكان... حتى نغيرها لازم... شارعنا يكون الميدان». و«يا سنيورة سماع سماع بدنا حكومة ما بتنباع».وحتى ينفي بعض المتظاهرين عن قياداتهم تهمة «الدم الثقيل» لجأوا الى اغنية في الموضوع الاميركي هي: «هالصيصان، شو حلوين، عم يدورو حول رايس مبسوطين، وراح يفلوا مفقوسين». ففيها، الى العمق السياسي، خدمة للمتظاهرين الاطفال الذين رافقوا ذويهم.ولان رئيس الحكومة ارتكب جريمة «الخيانة العظمى» حين ذرف دمعة حزنا على آلاف الضحايا التي سقطت بالعدوان الاسرائيلي صرخ المعتصمون: «شبعنا كذب، شبعنا دموع، بدنا حكومي تا ما نجوع».القصة اكبر من اميركا اذا، فيها بعد اجتماعي اضافة الى مطلب رجولي وآخر بيروتي: «يا سنيورة نزال نزال هيدي الكرسي بدها رجال». و«يا بيروت الأبية نحن رجال الحرية، نحن نجوم الاستقلال والنخوة اللبنانية».واذا كان الكرسي يحتاج الى رجال فمن هم؟ يقول المنتفضون: «يا سنيورة طل وبص.. ما بيشيلك إلا الحص».وعندما بقي السنيورة ولم «يشيله» الحص ولم يخرج من بيروت «الأبية» سوى الغضب والسخط على الاعتصام وشعاراته تحول الطرب هذيانا «محترما» مثل: «يا سنيورة قول الحق بعت الدولة واللا لأ»، و«يا سنيورة يا نيقة يا (...) عتيقة»، و«يا سنيورة قول الحق (...) الوأ واللا لأ». و«ضب اغراضك يا فؤاد، ريّحنا وريّح البلاد»، و«يا سنيورة فلّ فلّ... شعبي ما بيرضى الذل» و«يا سنيورة باي باي... واحد قهوة وواحد شاي»، و«توت توت توت... الحكومة عم بتموت».تستريح الاغاني وافكر بأخذ «سهوة» فيأتي الابطال مجددا يصرخون كأنهم في حلبة مصارعة: «ما بدنا يعطونا الثلثين، يعطونا أفا ظهورهم» و«مش رح نغيّر مسلتنا تنسقط علتنا» و«يللا ع التغيير، يللا ع الاصلاح»، و«يا لحود لا تنهمّ جايي عون يشيل الهم»، و«ما بدنا الا الجنرال رئيس الجمهورية».عام مضى، ولم تعط الحكومة «افا ظهرها» لاحد. اعطت صدرها للجميع بمن فيهم اولئك الذين اختزلوا السياسة الى مستوى الشتائم والفتن. غادر لحود قصر بعبدا ولم «يشيل» عون عنه الهم. خفت صوت الاغاني لان المطربين انفسهم يغنون بلا نفس، اما لان الكلمات الهابطة لم تعد مقنعة واما لان المايسترو غير حركة العصا في يده بعدما تغيرت حركة العصا... في وجهه.عام مضى، وثورة الفرز لم تنجح الا في قطع الحياة عن قلب العاصمة.احمد الله انني... تمثال!