كُلما هبّتْ - سموم - الغزو الهوجاء، تناثرت أوراق الذكريات، فأدمى العيون غبارها...! هكذا وصف عدد من الفنانين والإعلاميين أحداث الثاني من أغسطس العام 1990، حين احتل الغزاة أرض الكويت في «الخميس الأسود»، مُتَسَلِلِين خلف ستور الليل كخفافيش الظلام، ليعيثوا الخراب والفساد والفوضى في أرجاء البلاد.وأجمع نجوم الفن والإعلام على أن الألم لا يزال يعتصر القلوب، وبأن هناك أحداثاً لا يمكن محوها أو تجاهلها على الإطلاق، حتى وإن دارت عقارب الزمان، ومضت السنون والعقود. كما اعتبروا أن «ذكرى الغزو» لا تزال تمرُّ في أذهانهم على الدوام، كشريطٍ سينمائي لفيلم رعب واقعي، كتبه التاريخ في دفاتره، لتشهده الأجيال على مر العصور.«الراي»، رصدت بعض المواقف والذكريات لهولاء المشاهير، وخرجت بهذه المحصلة:

في البداية، تحدث الفنان الدكتور طارق العلي، قائلاً:«ذكرى الغزو الصدامي لم ولن تُمحى من عقولنا على الإطلاق، لأن آثارها لا تزال حاضرة بكل تفاصيلها، مهما بلغنا من العمر، ستبقى أحداث الثاني من أغسطس العام 1990 محفورة في ذاكرة الكويت والكويتيين، حيث كابد الجميع الآلام الموجعة والحياة القاسية على مدى 7 أشهرٍ عجاف، فضلاً عن الظروف المريرة التي تعرضت لها كويتنا، قيادةً وحكومةً وشعباً، وحتى المقيمون فيها، لم يسلموا هم أيضاً من بطش العدو وجبروته». مضيفاً:«لن ننسى كيف عُومل أهل الكويت بشراسة، ولن ننسى استشهاد أبنائنا رجالاً ونساءً، عسكريين ومدنيين عُزّلا، حيث سالت دماؤهم الزكية على هذه الأرض، كما تعرضوا إلى أبشع أنواع التعذيب في سجون المحتل البغيض». ومضى العلي يقول: «الفن الكويتي تعامل مع الحادثة برقي كبير لا سيما لناحية المسرح، ففي جميع مسرحياتنا لم نتوجه بالشتم إلى الشعب العراقي كوننا جُبلنا على عدم شتم الشعوب بتوجيهات من قيادتنا الحكيمة، تحت راية حضرة صاحب السمو، بل إن هجومنا كان مُركزاً على أفعال صدام حسين وجيشه وحزبه الذين ارتكبوا الجرائم وسفكوا الدماء». مردفاً:«حتى أنه بعد التحرير عاشت بيننا عدد من الأسر العراقية وغيرها من الجنسيات العربية وكانوا في بلدهم الثاني (معززين مكرمين) عدا أولئك الذين تسببوا في أذية أهل الكويت وهربوا من تلقاء أنفسهم». ولفت العلي إلى أن جذور العلاقة الاجتماعية بين الشعبين العراقي والكويتي تمتد إلى عمق التاريخ، «عطفاً على الارتباط الأسري الكبير بيننا، والنسب والجيرة».وبسؤاله، عمّا إذا كان الفن أسهم في إذابة الجليد بين الشعبين، ردّ قائلاً:«بكل تأكيد، فقد لعب الفن دوراً كبيراً في إصلاح ما أفسده النظام البائد، من خلال الرقي والحيادية في تعامل الشعب الكويتي مع أشقائهم من الشعب العراقي، فأبواب الكويت ظلّت مشرعة أمام الجميع، وأكبر دليل على ذلك هو التبادل الفني والثقافي بين الكويت والعراق، فقد شهدت السنوات الماضية العديد من المشاركات لفنانين عراقيين في مجالات شتى، على غرار التمثيل والغناء والشعر، وغيرها من ألوان الفن، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر الفنانة العراقية ميس قمر التي كانت ولا تزال واجهة جميلة لبلدها».بدورها، استذكرت الفنانة زهرة الخرجي أحداثاً غزيرة قالت إنها لاتزال عالقة في وجدانها، لما خلّفهُ الغزو من خراب ودمار وجريمة إنسانية بحق الوطن، بالإضافة إلى الآثار النفسية، التي - تكتم الأنفاس - كلما هبّت رياحها الهوجاء وخيّم غبارها فأدمى العيون. ولفتت الخرجي إلى مواقف عدة تجول في مخيلتها، حيث قالت:«لن أنسى صبيحة الثاني من أغسطس العام 1990، حين تجحفلت قوى الشر والظلام في - الخميس الأسود - الذي كان صعباً ومؤلماً على كل مواطن كويتي وعربي». واستدركت:«لكن في المقابل، كان هناك يوم أبيض عندما أشرقت شمس التحرير بنورها الساطع على وطن النهار في السادس والعشرين من شهر فبراير العام 1991، ليلتئم الشمل، وتزهو الحياة من جديد، بعد ليالٍ حالكة السواد». وتطرقت إلى أنها عاشت أياما صعبة للغاية، لا تود أن تتذكرها الآن، واصفةً إياها بـ «الكابوس المزعج، وبفيلم رعب واقعي، بكل ماتحمله الكلمة من معان».وألمحت الخرجي إلى أن المهرجانات الفنية والأعمال المشتركة بالإضافة إلى التبادل الثقافي وغيرها، أسهمت إلى حد كبير في التقارب بين شعوب العالم أجمع، خصوصاً الشعبين العراقي والكويتي. وتابعت:«الشعوب ليس لها ذنب في المشاكل السياسية ولادخل لنا فيها، والله يصبر أهالي الشهداء والأسرى والمفقودين، وكل من فقد عزيزاً».وأضافت:«إن الحروب العالمية، بالرغم من بشاعتها وتسببها في إبادة الملايين من البشر، غير أن البلدان التي شهدت تناحراً فيها ألغت كل الجدران والحدود في ما بينها، كما عاشت جميعها في محيط واحد من دون فواصل تفرقها، بل أصبح التنقل من بلد إلى بلد يتم عن طريق السيارة بلا تأشيرة دخول، بغية تسهيل رحلات الذهاب والإياب بينها»، مُعربةً عن أملها بعودة الأمور إلى طبيعتها بين الشعبين العراقي والكويتي، مثلما كانت عليه الحال قبل الغزو. وألمحت الخرجي إلى أن الإنتاج المشترك في أي عمل فني يعمل على تقليص المسافات بين الفنانين، «مثلاً، هناك شعوب لاتعرف لهجتنا الكويتية، ولكن من خلال الأعمال المشتركة باتت تجيد المفردات الكويتية، كما لو أنها تقيم هنا في الكويت». في السياق ذاته، وصف الفنان سليمان الياسين يوم الغزو بـ «يوم حداد» بالنسبة إليه شخصياً، خصوصاً أن والدته دُفِنت قبل يوم واحد فقط من دخول القوات الغازية أرض الكويت، وهو ما ضاعف الحزن في وجدانه ليصبح حزنين، لفقدان والدته ولاحتلال الكويت، مُعبراً عن شعوره بالوحشة في تلك الأيام، «فقد كان جميع أبنائي خارج الكويت وقتذاك».وأضاف الياسين:«لقد عشتُ وحيداً، بلا أم وبلا وطن، فكنت في حالة يرثى لها»، واستدرك:«لكن في يوم التحرير ارتفعت معنوياتي كثيراً، عندما تكاتف أبناء الشعب لإعادة الوطن مرة ثانية». معرباً عن أمله بأن يعيد الفن العلاقات بين الكويتيين والعراقيين، وإزاحة كل العوائق التي وضعها الطغاة، منوهاً إلى أن الفن أرقى من كل شيء، «كما ان دوره فاعل ومهم لإعادة الوفاق والوئام بين الشعوب». وأكد أن المثقف والفنان لعبا دوراً كبيراً في اندمال الجروح التي كان سببها الغزو، «دورهما اجتاز دور الساسة، في خلق جسور المحبة والأمان»، موضحاً أن التعاون الفني دائماً ما يخلق الاستقرار بين المجتمعات. في غضون ذلك، قال الفنان عبد الرحمن العقل إن ذكرى الغزو العراقي لا يمكن أن تغيب عن باله قط، ولا يمكن أن ينسى كيف اعتدى الجار على جاره المسلم، مستذكراً في الوقت نفسه شهداء الكويت الأبرار.وزاد:«ساعد الفن بشكل كبير في عودة المياه إلى مجاريها مع الشعب العراقي الشقيق، بعد حالة الركود التي استمرت حتى سقوط صدام ونظامه في العام 2003، وذلك من خلال التعاون الفني في المسرح والتلفزيون، بالإضافة إلى مشاركة الكثير من الممثلين العراقين معنا، وهم بلاشك مرحب بهم دائماً في بلدهم الثاني الكويت».وأوضح العقل أن بين الشعبين الكويتي والعراقي عادات وتقاليد متشابهة ومتقاربة للغاية، عطفاً على التلاحم الأسري،«كما أن الشعب العراقي هو جار في النهاية ونحن نحترم الجيرة، بعيداً عن السياسة وأطماع الطامعين».من ناحيتها، تحدثت الإعلامية القديرة أمل عبدالله، قائلة:«بالنسبة إليّ، فلا تمر ذكرى الغزو الغاشم في الثاني من أغسطس إلا وأتذكر المعاناة التي كابدها أبناء الشعب الكويتي كافة، إذ تتداعى الذكريات وتتوقف عند نقاط معينة تعرضنا لها في تلك الفترة العصيبة من تاريخ بلادنا، ولن أنسى كيف خاطرنا بأنفسنا حين عملنا بدأب، كخلية نحل في أماكن شديدة الخطورة، إذ كنا نأخذ النشرة الإخبارية التي كانت تطبعها المرحومة الأخت هبة السالم، بعد أن تقوم بالاتصال بنا ظهراً، وتقول: (تعالوا لقد أنجزنا الخبز أو الطبخة الفلانية) في محاولة منها لتضليل العدو، حيث تم تكليفي بتوزيع المنشورات في منطقة الروضة». واسترسلت:«كانت النشرة، ترصد أخبار الكويتيين في الداخل والخارج، وكنت أتولى مهمة توزيعها في منطقة الروضة كل مساء، وأذهب كذلك إلى منزل الأخت الإعلامية فاطمة حسين لتبادل الأخبار، إذ كان يتردد علينا الكثيرون من أبطال المقاومة». مردفةً:«كثيرة هي الذكريات في تلك الأيام، ولا أنسى أيضاً أنه كان اسمي ضمن الأسماء المطلوبة لدى قوات الاحتلال، حيث ورد في الكشف الذي كان بحوزة الشهيدة أسرار القبندي خلال أسرها على يد الغزاة». وأكملت:«لعل أصعب المواقف التي مررت بها شخصياً، هي لحظة خروجي من الكويت، حيث ذرفتُ الدموع بغزارة لخروجي مجبورة من أرض بلادي، فافجعني منظر شوارعها التي تحولت إلى ممرات مظلمة وكئيبة، بفعل الاحتلال».وأشارت عبدالله إلى الترابط الاجتماعي وصلة القربى والإخوة بين الشعبين العراقي والكويتي منذ عقود من الزمن، فضلاً عن النسب والتزاوج بينهما، «ولكن تعود الحسرة إلى النفوس ويعتصر الحزن القلوب كلما حلّت ذكرى الغزو». وتساءلت:«كيف لأم فقدت وليدها أن تنسى، وماذا عن الزوجة التي صارت أرملة بعد قتل زوجها، أو فتاة عُذبت من دون ذنب؟». وأجابت:«لا تزال هناك (غصات) في القلب، وكما يقال إن الصراخ بقدر الألم، وألم الشعب الكويتي متفاوت، بين مميت وعميق ومتوسط وطفيف». واستطردت:«لابد للحياة أن تستمر وألا تتوقف عند زمن بعينه، فالعراق والكويت شعبان متحابان، ولا ينبغي أن تكون العلاقة بينهما ضعيفة، كما لا يمكن أن يدفع الشعب العراقي ضريبة الجرم الذي ارتكبه نظامه المقبور في قرار متهور وأرعن، وهذه المسائل تبقى قصة يرويها الزمان على مرّ العصور، والزمن كفيل في علاج كل شيء».أما الإعلامية إيمان النجم، فقالت:«لن أنسى ذلك الخبر الذي هبط على مسمعي كزلزال مدوي (غزو الكويت)، بالإضافة إلى ما سمعته عن استشهاد شخصين في (الفريج) المجاور، حيث قتلا بدمٍ بارد أمام المارة في الشارع، وقد هزني الخبر إلى حد أنني كلما مررتُ في ذلك المكان وشاهدت أثر الدماء على قارعة الطريق، شعرت بالفزع الشديد». وعن دور الفن في هذه الأزمة، ردّت النجم:«الفن بشكل عام هو لغة الشعوب والعالم أجمع، وليس له وطن، كما ينبغي الفصل دائما بينه وبين السياسة». وأضافت:«نحن كإعلاميين لابد أن نكون محايدين، أما رأيي الشخصي حيال هذا الموضوع فأنا أفضِّل الاحتفاظ به داخل أسوار بيتي». بينما أوضح الفنان أسامة المزيعل أنه كان أحد رجال المقاومة إبان الاحتلال العراقي للكويت، قائلاً:«كم هو صعب أن ترمي الطغاة بالرصاص وهم يرمونك بأنواع متعددة من الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، فلم أكن أعلم إذا كنت سأعود إلى البيت حياً أم سأكون جثة هامدة».ومضى يقول:«كم تعرضنا للخطر ولكن الكويت تستاهل، ما زلتُ أتذكر ماحدث في منطقة الرميثية وإنجازاتنا فيها، حيث كان عمري حينها 19 عاماً، وكان معي في ذلك الوقت زميلي الفنان عمر البكر الذي عرّض نفسه للخطر غير مرة، إذ كنا نخبئ الأسلحة، ونساعد كل محتاج، كما في بالي أحداث مرعبة لا تنسيني إياها كل الأزمنة».ولم يُخف المزيعل عدم تقبله للتعاون الفني بين الكويت والعراق، مكرراً:«أتحدث عن الجانب الفني فقط لا غير، لستُ راضياً عن هذا الأمر، وقد نسامح عمّا حدث، ولكن تبقى في القلب ألف حسرة» واختتم بقوله:«من يقول إنها حرب وانتهت، عليه أن يتذكر حجم الخراب والدمار الذي حلّ بالكويت، فهي لم تكن حربا عادية بل (حرب بعثية) حرقت الأخضر واليابس، وللعلم أنا لست من عشاق الفن العراقي، فقد توقف بي الزمن معه، في العام 1990»