لم يعد الحديث عن ظاهرة اجتياح وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها وبرامجها لمجتمعاتنا أمراً جديداً أو حصرياً، لكن التطرق إلى آثارها السلبية، التي ما زالت تجر الكبير قبل الصغير إلى قاعها، باق ما بقيت وبقي الأثر.ففي حين حذر خبراء علم نفس واجتماع كويتيون من تداعيات هذه الوسائل التي «استعبدت» الأفراد، وأوجدت «ظاهرة التوحد الإلكتروني»، خرجت دراسات وبحوث علمية حديثة غربية تتناول أسباب تفكك أواصر العلاقات الأسرية، واتفقت في مجملها على أن استخدامها عزل كل شخص في عالم خاص به، وأصبح أسيره على مدار الساعة، وبناء عليه برزت دعوات إلى تخصيص يوم في الأسبوع للأسرة بلا وسائل تواصل. ومع توسع شبكات التواصل وغرق المستخدمين فيها، فُقدت لغة التواصل والتعبير، ولغة الكلام، ولغة الجسد، وأصبحت الحروف المطبوعة على الشاشات الذكية هي اللغة السيدة والسائدة في مجتمعاتنا، ومع انصهار لغة التعبير شيئاً فشيئاً، انصهرت العديد من المبادئ والقيم الأسرية، فتعددت الشاشات والمُصاب واحد... جسد الأسرة.
عزلة اجتماعيةمحلياً، لا يعتبر المجتمع الكويتي في منأى عن هذا الصدع الأسري الذي خلفته هذه الوسائل، فحاجز الشاشات الالكترونية أحكم السيطرة على الجميع وتسبب في عزلهم اجتماعياً عن محيطهم وحبسهم في دهاليز تطبيقات التواصل الاجتماعي، ومنها ما ينغمس في مجال المحتوى الترفيهي من موسيقى وأغانٍ وأفلام ومسلسلات، حتى في أيام العيد والمناسبات الاجتماعية.وفيما يتزايد الحديث علمياً عن التأثيرات السلبية المحتملة التي تنجم عن ظاهرة إفراط الناس في الانكفاء على الشاشات الالكترونية، طرح العديد من الباحثين تخصيص يوم بلا هذه الوسائل لفتح المجال لتجسيد العلاقات الأسرية وتبادل الأحاديث.
حواجز أسريةوحال البيوت في مجتمعاتنا اليوم أن كل فرد من الأسرة يكون منغمساً في شاشته الخاصة التي يتواصل من خلالها مع أشخاص آخرين أو مع ألعاب الكترونية، وهي الشاشة التي تجعله غارقاً في عالم منعزل افتراضياً عن بقية الأفراد، على الرغم من كونهم جميعاً يعيشون تحت السقف ذاته، بل ربما يكونون جالسين معاً في غرفة المعيشة.«الراي» رصدت آراء بعض المختصين لبحث أسباب وعلاج مشكلة إدمان استخدام التطبيقات الذكية، فقال المستشار محمد عفيف القرفان إنه «قبل ثلاثين سنة فقط أو حتى أقل قليلاً، كانت الأم تحاول إقناع ابنها بالعودة إلى المنزل قبل الغروب وذلك لأنه قضى وقتاً طويلاً في لعب الكرة مع أصدقائه، أما اليوم فنحاول نحن أولياء الأمور جاهدين أن نقنع الابن بأن يخرج من غرفته ويتخلى عن ألعابه الالكترونية لكي يخرج ويمارس حياته الاجتماعية مع أفراد أسرته أو أصدقائه أو زملاء الدراسة». وأضاف القرفان «أصبحت الوسائل الالكترونية تشكل تهديداً كبيراً على حياتنا الاجتماعية والأسرية لما لها من أثر على تفاصيل مجريات حياتنا اليومية، وصارت هاجساً لدى الأسر التي تطمح بأن تكون علاقات أفرادها طبيعية». وبشأن مخاطر استخدام هذه الوسائل على مستوى الأسرة، بيّن أنها «ساهمت بوضع حواجز بين أفراد العائلة الواحدة، ورغم أنها ليست حواجز بالمفهوم التقليدي للكلمة ولكنها حواجز نفسية واجتماعية ووجدانية، حيث لا يكاد المدمن عليها أن يشعر بمن حوله، فضلاً عن أنه لا يتواصل معهم أصلاً نتيجة الاستغراق بما تقدمه من لهو وتسلية وغيرها من الأمور، التي تجعل الشخص يكتفي بها عمن حوله من البشر وإن كانوا أفراد الأسرة الواحدة». وزاد أن الوسائل الذكية لا تخلو من الفوائد التي جعلت حياتنا أفضل وارتقت بنا في عصر التكنولوجيا والمعرفة، إلا أننا هنا نركز على أثرها السلبي على العلاقات الأسرية من أجل إيجاد الحلول المناسبة للحد من هذا الإدمان، الذي زعزع تركيبة الأسرة وقوض بناءها.
سلة بعيدة أما في الزيارات العائلية، فطالب القرفان «بوضع جميع الأجهزة في سلة بعيدة عن الجلسة العائلية لمدة ساعة مثلاً، والتقليل التدريجي لعدد ساعات استخدام بعض الوسائل، التي تتطلب أوقاتاً طويلة وعمل جدول أكثر تنظيماً يساعدنا في التخلص من الأثر السلبي للأجهزة الالكترونية لمصلحة بناء العلاقات الأسرية، وتعزيز دور التنشئة الأسرية السليمة، وبما أن الأسرة هي نواة المجتمع، فالحفاظ عليها من خلال بناء علاقات اجتماعية سليمة هدفنا جميعاً». من جانبها، قالت مدربة التنمية البشرية والتدريب الإلكتروني ريم الصواف انه «دائماً ما توجه أصابع الاتهام نحو التكنولوجيا الحديثة في تفكيك العلاقات الأسرية، فأبناء الأسرة من مراهقين وأطفال هم أكثر ضحايا تلك الوسائل، وبالبحث في تأثيرها على العلاقات الأسرية نجد أن شخصاً يضحي بعلاقاته الأسرية من بين كل ثلاثة أشخاص من مستخدميها».
التفكك والطلاق وأكدت الصواف أن «المشكلة في الحقيقة ليست في ذلك الجهاز الصغير إنما في مستخدميه، نحن من نستخدم ونحن من نتابع ونحن من نرسل ونحن من نعطي أبناءنا من دون أي شرط أو متابعة، ثم ما نفتأ نتهم التكنولوجيا والأجهزة الذكية بأنها سبب التفكك والطلاق وحالات التوحد والانعزال عند الأطفال وضياع المراهقين، وننسى كل إيجابياتها واستخداماتها الرائعة التي تختصر علينا الكثير من الوقت والجهد إن استخدمناها بالطريقة الصحيحة».بدوره، أكد دكتور علم النفس خضر البارون أن «الاتصال بين أفراد الأسرة الواحدة أصبح مفقوداً، والاستخدام السيئ لهذه الوسائل وتلقي كل ما عليها من أخبار ومواقع وبرامج من دون رقابة، أثر بشكل كبير على طريقة تفكير الأطفال والشباب، ما أدى لانهيار علاقاتهم بأسرهم».وأضاف «بات الطفل يسأل والدته عن طعامه وثيابه عبر برامج مواقع التواصل الاجتماعي، وهم في المنزل ذاته، من دون أن يكلف نفسه عناء السؤال وجها لوجه، وهنا يفقد الاتصال اللفظي والجسدي، وتغيب تعابير الوجه ونبرة الصوت بين أفراد الأسرة الواحدة، وتبدأ الشقوق باعتراء العلاقة الأسرية».واقترح البارون أن «يتخلى الجميع - الكبير قبل الصغير - عن أجهزتهم في الأعياد والمناسبات، وأن يضعوها في سلة فور دخولهم لبيت العائلة، ولا بد للأب أن يضع قوانين صارمة تمنع تواجد الأجهزة على مائدة الطعام والاجتماعات العائلية».وفي رأي مشابه، قال الدكتور فوزي الخواري إن «التكنولوجيا الحديثة سهلت الأمور والتواصل، ولكنها باعدت بين الناس في الوقت ذاته، وخلقت حالة من العزلة بين الأفراد، والأزواج، حيث أصبح كل منهم يفتح عينيه ويغمضهما على شاشة الهاتف».
التوحد الإلكترونيوأضاف «الارتباط بالشاشات أصبح أقوى من الارتباط الأسري، إلى حد أننا نشاهد القطيعة بين الناس في المناسبات والأعياد، وأصبحت التهنئة تمرر بشكل إلكتروني عبر رسائل (الواتساب)، ففي الوقت الذي خلقت الشاشات مفهوم مواقع التواصل الاجتماعي، سرقت منا جوهر هذا التواصل»، مؤكداً «أننا أصبحنا نواجه توحداً إلكترونياً، حيث بات من الطبيعي عدم تكوين علاقات اجتماعية بين الأفراد، ولكن ليس من الطبيعي عدم حيازة هاتف ذكي».وعن السلوكيات الناتجة عن التوحد الإلكتروني، أشار الخواري إلى أنه «نتجت لدينا مشاكل اجتماعية، منها ظاهرة الانتحار التي أودت بحياة الكثير من المراهقين نتيجة الألعاب الإلكترونية الخطيرة التي أدمنوها، ناهيك بأن هذه الشاشات الذكية لم تترك محظوراً إلا وكشفته... عالم مفتوح، وفضاء شاسع، ينقل إلى المستخدمين كل السلوكيات من دون رقابة».
إضاءات
التأثير يمتد إلى المجتمع
بيّن الدكتور خضر البارون أن «قضاء أوقات طويلة على الهواتف يؤثر على فاعلية الشباب في المجتمع، سواء في مدارسهم وتلقيهم للمعلومة، أو في أسلوب تعاطيهم مع الناس، ويعكر مزاجهم ويؤثر على صحتهم سلبا»، مشدداً على أن «انشغال أولياء الأمور عن أبنائهم له دور كبير، وبالذات الأب، فهو عمود المنزل وعليه أن يتحدث إلى أولاده ويتسامر معهم».
تعطيل العقل
لفت الدكتور فوزي الخواري إلى أن «الهاتف قد يصيب الشخص بالبلادة، لأنه لا يستخدم عقله، فعلى سبيل المثال كشفت دراسة أخيراً أن لعب الورق يؤخر ألزهايمر لدى كبار السن، وذلك أنه يلعب مع مجموعة تذكره وتحاوره، ويستخدم عقله للتفكير والحساب، على عكس الهاتف الذي وأد التواصل لغويا وجعله إلكترونيا، وبالتالي نجد أن الكثير من جيل اليوم غير قادر على التواصل كتابة ومحادثة، وأصبح لدينا ما يعرف بعبيد الإلكترونيات، التي بترت حياة الفرد وعزلته عن مجتمعه وأسرته».