المتأمل لحال الأنشطة والفعاليات الثقافية خلال فترة الصيف سيجد أن وتيرتها تقل إلى مستويات منخفضة، إلى الدرجة التي جعلت الكثير من المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية بما فيها جمعيات وروابط ونقابات المجتمع المدني أو النفع العام تحدد مواسم ثقافية لها، تتوهج وتشتعل خلال فترات محددة، تلك التي ترتبط في كثير من الاحيان بإجازات المدارس والجامعات، رغم أن لا علاقة لمثل هذه الإجازات بإقامة فعاليات ثقافية، إلا أن العرف الثقافي العربي قد أقر هذا الربط الغريب.وبالتالي تتوقف تماماً أو بشكل جزئي إقامة الامسيات والندوات والمحاضرات، وحتى في بعض الاحيان معارض الكتب، بتوقف ذهاب التلاميذ والطلبة إلى مدارسهم وجامعاتهم، بالإضافة إلى مواسم تتعلق بإقامة المهرجانات، التي تتحدد في مواعيد سنوية، يحشد فيها مختلف الطاقات والهمم، وبانتهائها يعود الكل إلى مواقعه الاولى من الركود والتوقف.وما أود الوصول إليه أن الثقافة شأن مستمر يجب أن يكون في كل أحواله وحالاته دائماً ومتحركاً، فهو لا يتحمل في آلياته ومفاهيمه مسألة المواسم والمواعيد السنوية المحددة بتواريخ، بقدر ما هو منظومة مستمرة لا تتوقف مع توقف أي منظومة أخرى ولا تنطلق بانطلاقها.إن الثقافة رؤية تحمل في مضامينها الإنسانية، وتتفاعل بشكل دؤوب مع الحياة، وتتطلب أن تكون على استعداد تام للتجدد بشكل يومي ومتكرر، ليس على مستوى الفرد فقط من خلال قراءاته المستمرة أو كتاباته الدائمة، ولكن أيضاً من خلال المؤسسات ذات الصلة به، والانفتاح على مختلف المجالات التي تُعنى بالثقافة على كل المستويات ومن دون توصيف أو تحديد، وهذا الانفتاح يستدعي - في كل حالاته وأحواله - ألا تتوقف دورة حياة الثقافة في مؤسساتها، وألا تختصر في مواسم محددة، وكأن الثقافة تعيش بعدها في بيات، وهذا الأمر يؤثر على تدفق الأفكار وتواصلها مع ما يستجد من أحداث ثقافية.ونرى بعض المؤسسات الثقافية - كتحصيل حاصل - تقيم فعالياتها خلال فترة التوقف، كنوع من إثبات الوجود، وهي في حقيقة الأمر فعاليات سريعة وغير منظمة، ولا تحقق الشبع الثقافي الذي يحتاجه المتابع للشأن الثقافي، ولا تجد حضوراً جماهيرياً مطلوباً، رغم أننا نلمس هذا الضعف حتى في الأنشطة الموسمية التي تتمتع بالتنظيم والجدية في إقامتها.فحينما تنحصر الفعاليات الثقافية في مواسم محددة، فإن ذلك اعتراف غير مباشر من قبل المؤسسات الثقافية بأن المجتمع بإمكانه أن يستغني عن الثقافة لفترة بعيدة قد تمتد لأكثر من 3 أشهر، ومن ثم الاكتفاء بالقراءات المتفرقة التي يقوم بها الأفراد من خلال متابعة المواقع الإلكترونية أو الكتب الورقية، انتظاراً لانطلاق الموسم المقبل، وهذا ما يضعف من المنظومة الثقافية، التي من أهم مواصفات تطورها ونهضتها الاستمرارية والتواصل وعدم التوقف.كما نلاحظ - أيضاً - أن المواسم الثقافية باهتة ولا تحقق المردود المعرفي، ولا تشبع الرغبات التي تتطلع إلى الثقافة في أجمل صورها، مما قد أثر بشكل سلبي على الحضور الجماهيري، الذي بدأ في الانصراف وعدم الحضور، حيث إن الفعاليات تبدو في أشكالها ومضامينها هزيلة، لا تتضمن محتويات تليق بما نشهده من تطور مذهل وغير مسبوق على مستويات عدة مثل التكنولوجيا والمعرفة ونظم المعلومات وغيرها.فلا تزال فكرة ترتيب الأمسيات والندوات وحتى المعارض الشخصية في أشكالها التقليدية موجودة، وإن سعينا إلى تطوير هذه الأمور نجده سطحيا لا يصيب إلا الشكل فقط، بينما يظل المضمون بتقليديته شاخصاً غير قابل للتطوير.لذا فإن استمرارية العمل الثقافي يجب أن تكون هي الرؤية الأولى، التي نعتمد عليها في دورة الحياة الثقافية، كي نتلقى مردوداً ذا فائدة، ومستقبلاً مضموناً يعيننا على المنافسة التي تقابلنا، ليس فقط في مجال المعرفة، ولكن في مجالات أخرى علمية، فالثقافة هي أساس أي تطور، ولا يمكن بناء المستقبل إلا من خلاله.فلتكن الثقافة شأنا يومياً لا يتوقف عند حدود الموسمية، ولا المهرجانات ذات المواعيد السنوية المحددة سلفاً، وهذا لن يتحقق إلا من خلال إعادة مؤسساتنا المعنية بالثقافة النظر في أهدافها، وطرق تحقيقها، وآليات عملها، ومن ثم العمل بإخلاص في الساحة الثقافية، بعيداً عن الروتين وتقليد ما كان سابقاً، كما يجب رصد خطة ثقافية محكمة، يمكن من خلالها تكريس مفاهيم شتى تتعلق بالمعرفة والعلم، ومن ثم تأكيدها بصفة مستمرة من دون توقف أو ر كود.