«بسطور خالدة، يعيش نائب حاكم الكويت الشيخ عبدالله مبارك الصباح، في سجل الوطن، بقدر ما تبقى إنجازاته شاهدة على ما قدّم لبلاده، ويعيش في ذاكرة الشعب بقدر ارتباط ممارساته بالمبادئ والقيم الأخلاقية لهذا الشعب».بهذه المقدمة، تبدأ الدكتورة سعاد الصباح كتابها «عبد الله مبارك الصباح في صور»، بطبعته الجديدة مع حلول الذكرى الثامنة والعشرين لرحيل الشيخ عبدالله المبارك، مؤكدة أنه رحل في وقت تبقى بصماته واضحة على جسد الوطن في مختلف مؤسساته. وتضيف «يبقى اسم عبد الله المبارك في ذاكرة الكويت نموذجاً لشموخ الرجل العام، ولكبرياء السلطة وهيبتها، لأنه احترم نفسه واحترم المواقع التي شغلها في حكومة بلاده، وتصرف –وهو خارج السلطة- وفقاً لهذا الاعتبار، لذلك، فرض على الآخرين احترامه وتقديره، فقد كان كبيراً في الحكم، وأكبر وهو خارجه».في يوم 15 يونيو 1991 ودّع الكويتيون والعرب رجلاً، كتب اسمه بحروف عربية ظاهرة البيان على صفحات تاريخ الكويت الحديث... بعد تحرير الكويت بأشهر قليلة، وقد اطمأن أن جهوده الكبيرة وجهود أسرته في محاربة الغزو وعودة الشرعية لم تذهب سدى.هو عبد الله مبارك الصباح، صقر الخليج، ونائب أميرها، والنجل الأصغر لأسد الجزيرة مؤسس دولة الكويت الحديثة الشيخ مبارك الكبير. ولد الشيخ عبد الله المبارك على الأرجح في 23 أغسطس 1914، وقد عشق الكويت منذ الصغر، ودافع عنها وذاد عن حياضها، فاضطلع بمهام الرجال منذ أن كان في الثانية عشرة من العمر حين تسلم حراسة بوابات السور، حتى وصل إلى مكانته المرموقة قائداً للأمن العام والجيش والشرطة والطيران والمعارف ومؤسسا للإذاعة والنوادي الأدبية ثم نائبا للحاكم على مدى عشر سنوات إبان حكم الشيخ عبدالله السالم الذي كان يغيب كثيرا في الخارج فيتولى مهمة إدارة الدولة الشيخ عبدالله المبارك. وهو يعد من مؤسّسي دولة الكويت الحديثة، وممن خطّطوا وشَيَّدوا وعَمَّروا وأقاموا الدعائم الأساسية لنهضتها.وبهذه المناسبة، صدرت أخيراً الترجمة الفرنسية من كتاب «صقر الخليج.. عبد الله مبارك الصباح»، حيث قامت إحدى دور النشر في باريس بترجمته وإصدار الكتاب ليكون في متناول الناطقين باللغة الفرنسية. وتأتي هذه الترجمة تأكيداً لأهمية هذا الرجل العربية والعالمية، حيث صدرت الطبعة العربية الخامسة من الكتاب عام 2014، وتبعتها الترجمة الإنجليزية عام 2016.في الكتاب توثق الدكتورة سعاد الصباح مسيرة زوجها، وقد ضمنته أدق تفاصيل حياته منذ ما قبل ولادته بقليل وحتى ما بعد وفاته بقليل، وما رافق ذلك من أحداث شملت معظم سنوات القرن العشرين، وماكان لها من أثر كبير في رسم خريطة الكويت سياسياً واقتصادياً وإنسانياً فضلاً عن رسمها جغرافياً أيضاً، مع الإشارة للأحداث العالمية الكبرى أو الإقليمية المهمة، ذات الأثر.تقول عن كتابها هذا في طبعته الجديدة «إن هدفي الوحيد هو إظهار وجه الحقيقة لمرحلة مهمة في تاريخ الكويت». وكان سمو الامير الشيخ صباح الأحمد قد أشاد، في رسالة وجهها إلى الدكتورة سعاد، بمناقب الشيخ عبدالله المبارك وبدوره البارز في نهضة الكويت. وكتبت الصباح في مقدمة كتابها «عبدالله مبارك الصباح كتابٌ بألوف الصفحات والعناوين، لا بدّ للأجيال الكويتية الشابة أن تقرأه، لتتعلم مبادئ الفروسية، والرجولة، والشجاعة والكرم، والوطنية، وهو منارةٌ عالية، وبرجٌ من أبراج الكويت، يدلّ المسافرينَ، والسفنَ، والبحّارةَ، ويفتح لهم طريق السلامة إلى موانئ القرن الواحد والعشرين».وسلطت الضوء على حياة رفيق دربها في كتاب آخر أصدرته حمل عنوان (عبد الله مبارك الصباح في صور)، فقالت في مستهل الكتاب: «.. نشأ الشيخ عبد الله المبارك وتربى في بيئة قبلية صحراوية، واستقى من هذه البيئة سجاياه وقيمه وأخلاقه ومبادئه القويمة التي كانت نبراساً له في طفولته، كما كانت أرضية صلبة وقف عليها بثبات في شبابه، ومنها استمد قوته وتميزه كرجل دولة حين باشر مسؤولياته الحكومية المتعددة. وقد تركت هذه النشأة آثارها في خلقه وطباعه، فكان صبوراً قادراً على تحمل الشدائد، ومقداماً لا يهاب الأخطار، وسيرته مفعمة بالأحداث التي تشير إلى شجاعته الشخصية». ولأنه قد تولى مسؤولية القبائل في المنطقة أردفت قائلة: «غرزت فيه البادية أيضاً أخلاق الكرم والإيثار، فكان لا يبخل بشيء، ولا يخيب رجاء محتاج أو طالب حاجة حتى إن البعض وصفه بالتبذير، والحقيقة أن هناك فارقاً كبيراً بين الكرم والإسراف، فالكرم هو خُلق يتطبع به الإنسان منذ الصغر، ويعيش معه حتى الممات غنياً كان أو فقيراً، وهو كان كريماً منذ صغره حسب عادات البادية». كما تولى القضاء في النزاعات القبلية وقام بحماية الحدود من المتسللين عبر البوادي.كان الشيخ أحد فرسان الكويت المعدودين، وهو الذي وضع نواة «نادي الفروسية والرماية»، وخصص الأرض الفضاء الممتدة ما بين قصر مشرف والقصر الأبيض لممارسة هوايته، ودعا الشباب الكويتي إلى ممارسة الفروسية.ظهرت الشخصية الاستثنائية لهذا الرجل في مجتمع تقليدي فيه ما فيه من القيود والمعيقات، وقد تطلع إلى آفاق رحبة ودعم قوى التغيير في الكويت، بل صنعها في عديد من المجالات.وبصفته أصغر أبناء الشيخ مبارك الكبير مؤسس الكويت، كان منذ بداية العشرينات من القرن الماضي عمّا لمن تولوا حكم الكويت، مع تعبيره الصريح بالولاء والطاعة لهم.ولايخفى دور الشيخ عبد الله في إنشاء الأندية والجمعيات الثقافية التي مثلت اللبنات الأولى في بناء المجتمع المدني في الكويت، وهو من هو في كويت الخمسينات من حيث دوره في اتخاذ القرار وإدارة العلاقة بين شيوخ آل الصباح والشعب والمحيط العربي والإقليمي والمملكة المتحدة والعالم.يشهد السياسيون المطلعون على مرحلة الخمسينات والستينات بالأيادي البيضاء لعبدالله المبارك في توطيد العلاقات الكويتية العربية من جهة، والعربية العربية من جهة أخرى، وكذلك انضمام الكويت إلى جامعة الدول العربية قبل الاستقلال، ومواجهة الأطماع العراقية ابان فترة حكم عبدالكريم قاسم، وكذلك مواجهة آثار الصراع العالمي على منطقة الخليج. وقد حاز الشيخ على أوسمة الشرف من الدرجة الأولى من معظم البلاد العربية، ومن ذلك تكريم الرئيس المصري محمد نجيب للشيخ بوسام رفيع، وأقام الرئيس المصري جمال عبد الناصر للشيخ عبد الله المبارك مأدبة عشاء بمنزله بمنشية البكري قّلده فيها أعلى الأوسمة المصرية، وكانت تلك الزيارة بداية لعلاقة وطيدة بين الرجلين.. بالإضافة إلى أوسمة تقلدها من القيادات في المغرب ولبنان وسورية ودول عربية أخرى كما قامت الحكومة البريطانية عام 1945 بمنحه وسام الإمبراطورية الهندية بدرجة رفيق نظرا لجهوده في الحرب العالمة الثانية. شرع الشيخ عبدالله المبارك في العمل العام في سن مبكرة نسبياً منذ العام 1926، وذلك عندما كُلّف حراسة إحدى بوابات سور الكويت، ونجح في مهمته تلك نجاحاً مبهراً بكل حزم وذكاء، واستمر نشاطه في دوائر الحكم الكويتي بعد ذلك ما يقارب 35 عاماً منفّذاً أو صانعاً للقرار.لقد كان الدور الأكبر للشيخ في حقبة السنوات العشر السابقة للاستقلال، ويبدو أن الله قدّر له أن يكون هناك رابط بينه وبين وطنه في مرحلة حاسمة من التطور لكليهما، فقد كان الشيخ مقبلا على الأربعينات من العمر، وهي مرحلة الرجولة والقدرة على العطاء، في وقت كانت الكويت تتفجر حيوية ونشاطاً، وتتدفق بالخير والنماء، وتفاعل الرجل مع متطلبات المرحلة من أجل بناء مؤسسات الدولة الحديثة.وخلال ذلك العقد كانت الفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والتعليمية التي قام بها عبدالله المبارك في أوجها، ففي العام 1952 تولى الرئاسة الفخرية لنادي الاتحاد الرياضي والنادي الثقافي القومي منذ تأسيسه، وافتتح النادي الأهلي، وتقلّد وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة من قِبل الرئيس السوري أديب الشيشكلي، واستقبل الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق خلال زيارته للكويت وبرفقته نوري السعيد رئيس الوزراء.وتحين لحظات الألم الصعبة، ويأتي الخبر الحزين، في 15 يونيو 1991، حيث تفيض الروح إلى خالقها أثناء وجود سمو الشيخ عبدالله المبارك في لندن، ويوارى الثرى في مقبرة الصليبخات بالكويت في اليوم التالي. وبوداع عبدالله المبارك جسداً، أفلت شمس مشرقة في تاريخ الكويت، كانت فيها المرحلة التاريخية هي الأكثر اضطراباً وخطراً لشعب كتب الله له أن يواجه مصيره، ولكنه سبحانه وتعالى هيأ له رجالاً كعبدالله المبارك يديرون له دفة السفينة إلى بر الأمان.
محليات
سجلّ الوطن يسطّر بحروف خالدة سيرة رجل دولة صنع نهضة الكويت وبنى مؤسساتها
عبدالله مبارك الصباح... 28 عاماً على الغياب
الشيخ عبدالله مبارك الصباح
01:55 ص