المتابع لتاريخ الحياة البرلمانية، سيلاحظ المنعطف الجذري الذي اتخذه الاستجواب كأداة رقابية، ربما لو أردت تلخيصه لن أجد وصفاً يليق بالتغيير المصاحب للتعامل معه سوى: من الإعصار إلى النسمة!قبل الغزو - كمسافة زمنية فاصلة - كان إجمالي عدد الاستجوابات في الحياة البرلمانية لا يتجاوز عدد الاستجوابات التي تم التلويح باستخدامها طيلة الأسبوعين الماضيين، لمواجهة تعسف السلطة ونحن لا نعرف من يتعسف ضد من؟زمان - وهذا الزمان كان حتى وقت قريب - ينافس متابعة الاستجوابات متابعة نهائيات كأس العالم، ومنذ الجملة التاريخية «لا تسيسون السياسة»، والشعب يسيس الرياضة و«يريض» السياسة!كنا نحتشد أمام مبنى مجلس الأمة لحضور الاستجوابات، ننتفض بين فريق الوزير وفريق حرم الوزير، والمستجوبون يأتون بأصحابهم ومطرقة الرئاسة توقف التصفيق، والحرس يبعد العناصر المشاغبة، ونتبادل «الشفتات» إذا استمر الاستجواب حتى الصباح، الآن وصلنا إلى أن المرء - لو تابع استجواباً على سبيل المصادفة، وهو يقلب القنوات فيجده منقولاً على الهواء مباشرة في التلفزيون الرسمي - يتوه بين المستجوب ومستجوبه، ولا يدري من يستجوب من؟ خصوصاً عندما يستمع إلى كلمة «ما ندري» الشهيرة؟ونتذكر الجملة الشهيرة «هذا استجوابكم خلصناه ما عندكم غيره؟» لندرك مستوى وحجم التعامل الحكومي مع الاستجوابات، التي كانت تهز البلد في السابق وتبعاتها تنحصر بين حل المجلس وتعليق الدستور ووقف الحياة البرلمانية لسنوات، وبين استقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، أو الدعوة إلى انتخابات جديدة - في أهون الأحوال - إلى تعامل جديد مفاده: سيبوهم يستجوبون إلى أن يزهقوا... والواقع أن الشعب زهق، فلم يعد يعنيه نائب استجوب وزيراً أو وزير استجوب نائباً! بين استجواب يعلن في داخل استجواب، واستجواب وزراء لا يستجوبون، واستجواب رأس برأس واستجواب «جيتكم واحد وجيتوني جماعة»، انقلب الوضع من «انتو تحدونا نصير معارضة»، إلى «انتو تحدونا نصير حكوميين» قبل أن تنكشف الأمور، ويتضح أن الحكومة والمعارضة وجهان لعملة واحدة، ولم يعد المواطن يدري «يودي وجهه وين والا وين منهما»!واليوم أصبحنا لا نحتاج أن نعرف موقعنا من الاستجوابات، ولا موقف الاستجوابات منا، طالما أصبحت تمر ويأتي غيرها ليمر «مثل النسيم»، ونصف الشعب - إن لم يكن ثلاثة أرباعه - لا يعلم شيئاً عنها، بل هو مشغول جداً عن الاستجواب الجديد لأنه يحتسي كوب قهوته في مقهى جديد، وكأن المقاهي هي التي تعج بالاستجوابات، كحال المجلس في «الزمانات»!
مقالات
رواق
استجوابات مثل النسيم
09:38 ص