لك خياران في قراءة حادثة كربلاء واستشهاد الامام الحسين (ع)، أولهما أن تقتنع بالرواية التي تعطي للحادثة بعدا غيبيا أفصح عنه النبي الأعظم قبل حدوثه بعقود، حيث تشير بعض الروايات لهذا المعنى، وأن النبي الأعظم قد أخبر أمته بأن الحسين (ع) سيتم قتله في أرض كربلاء، بل وأعطى زوجته أم سلمة (رض) حفنة من تراب وأنبأها أنها ستتحول إلى دم قانٍ يوم مقتل الحسين، هذه رؤية لك أن تأخذ بها، ولك أن تأخذ بنقيضها مما ينزع عن القصة معظم عناصر القداسة والإعجاز، وأن تراها في سياق خلاف سياسي ارتأى الحسين معه أن ينتفض على السلطة القائمة لأسباب يرى مشروعيتها، وهو الأمر الذي انتهى كما في الروايتين باستشهاده ورهط من أصحابه وأهل بيته في معركة كربلاء الشهيرة.شخصيا، لا يعنيني أيا من الروايتين تقنعك أكثر من الأخرى، طالما أمعنت النظر في جملة من أمور قلما يختلف عليها الباحثون، أهمها هو مركزية ثورة الحسين (ع) وواقعة كربلاء في التاريخ الإسلامي ككل، وثباته على مبدئه الذي كان يؤمن به حتى الرمق الأخير، رغم إدراكه أن معركته مع الجيش المقابل غير متكافئة على الإطلاق، وهو ما يبدو أنه كان مطلعا عليه منذ بداية خروجه من المدينة المنورة، بدليل ما ينقله بعض الرواة من كتب متوالية أتته من الشام تعده وتمنيه بما يريد شريطة مبايعته للخليفة الجديد وعدم خروجه عليه، والتحذير المباشر الذي تلقاه حسب ما ينقل في نصيحة ابن عباس له من أنه مقتول لا محالة، وما يتواتر أيضا من ورود نبأ استشهاد سفيره للكوفة ابن عمه مسلم ابن عقيل قبل وصول الحسين نفسه لأرض المعركة، وهي أمور كفيلة بتثبيط همة الكثيرين عن الاستمرار فيما هم مقدمون عليه في ضوء المعطيات الواضحة أمامهم وحتمية الخسارة بالمعنى المادي للمواجهة مع معسكر الخصوم!اترك عنك هذا الجانب من قصة الحسين (ع)، وتعال معي في جولة في الكثير من الثورات المفترض تشابهها مع ثورة الحسين (ع) كثورة حفيده زيد وأحفاد الحسن (ع) محمد النفس الزكية وإبراهيم الكامل أبناء عبدالله المحض ابن الحسن المثنى، والكثير من التحركات الشبيهة ولو شكلا بواقعة كربلاء، ولنتساءل مع بعضنا عن أسباب طغيان أثر وذكرى واقعة كربلاء وحضورها في الوعي الشعبي والضمير الجمعي للأمة الإسلامية، بينما لا تجد للكثير من الثورات الأخرى ما يقارب واقعة كربلاء زخما ولو من بعيد.قد يسوق البعض كسبب لخصوصية كربلاء عظمة شخصية الامام الحسين (ع) ونبل أهدافه كسبب رئيس لحيوية قضيته واستشهاده، وهو مما لا يجادل فيه إلا جاحد، لكن الإنصاف يجبرنا على ان ننسب الكثير من الصفات النبيلة لغيره أيضا من أصحاب الثورات ضد الظلم والتي لم يتم تسجيلها في صفحات التاريخ بنفس الحجم والاهتمام الذي نال قضية كربلاء وعاشوراء الحسين.إنها زينب يا سادة!نعم أيها الأحبة، فأنا هنا أدعي أمامكم أنه لو لم تكن زينب شاهدة على واقعة كربلاء ولو لم تقم بالدور الذي افترضه لها أخوها الحسين - كما يبدو من إصراره على إخراجها معه من المدينة - لما كان لقضية كربلاء الحجم نفسه من التأثير السياسي والتاريخي، ولما وصلت لنا القضية واستمرت بمثل حرارتها في نفوس الكثيرين حتى لحظة كتابة هذه السطور وإلى أن يشاء الله!لقد كانت زينب (ع) هي المتحدث الرسمي والإعلامي باسم فاجعة الطف، وقامت بدورها على أكمل وجه فنقلت لنا القصة كما حصلت وواجهت رموز الظلم في زمنها ومن قاموا بقتل الامام الحسين ومحاولة تشويه أهداف ثورته، ونعت تحركه بأوصاف سياسية دنيوية لا تتناسب مع واقع ما قام به الإمام (ع)، كما وأوضحت مقاصد الامام من تحركه ونبل أهدافه ودفعت عن تحركه أي شائنة قد تحاول السلطات استخدامها لإدانته، كل ذلك وفق منهج منطقي وحجة سليمة لا تعوزها بلاغة اللغة وجمال التعبير، فهي في النهاية، ابنة علي (ع)!من زينب نبدأ وإليها ننتهي في موضوع هذه المقدمة، التي تفضل عليّ أخي وأستاذي الشيخ علي حسن غلوم بطلب كتابتها فاتحة لكتابه القيم، والذي أرى نفسي دون هذا المقام بكثير، فلقد أثارني في الفترة السابقة عزوف الكثير من الشباب عن حضور مجالس الحسين عليه السلام، والتي أعلم تماما أن بعضها هو نتاج حالة الانفجار المعلوماتي الهائل وتوافر المعلومات بشكل سهل وسطحي أحيانا، بالإضافة لتنامي الحس العقلاني لدى شبابنا مع ما يتبعه ذلك من امتلاك الكثير منهم لأدوات النقد التي بدأوا يطبقون الكثير منها على ما يتم ترديده في بعض المجالس الحسينية والتي - أي بعض تلك المجالس - يجب ألا نعفيها من مسؤولية الابتعاد بالمنبر الحسيني عن قيم الإمام (ع) بنشرها للكثير من الأخبار غير الموثوقة وتقديم البعض منها لخطاب سطحي وخرافي ما عاد يناسب الجيل الحالي من الشباب.إن شبابنا طيب وفيه من الخير الكثير، وهو مؤمن بطبيعته رغم ما قد يعتريه من شك أو نقد قد يقسو أحيانا تجاه الدين وأهله، ولا أجد أفضل من الشيخ علي غلوم وأمثاله جديرين بالتصدي لهذه المرحلة الحساسة من تاريخ هذه الأمة، وهي مرحلة تحتاج لخطاب اعلامي يناسب عقول شبابها ولا يخاصمهم، بل ويمد يد الرحمة والإشفاق نحوهم محاولا العودة بهم لما تمليه عليهم فطرتهم.ولنتذكر دائما... لولا إعلام زينب وخطابها الحضاري... لما كانت ثورة الحسين هي ما نعرفه الآن! ملاحظة: كتبت هذه المقدمة لكتاب الشيخ علي غلوم الجديد والذي أنصح الجميع بقراءته وهو بعنوان: «ليالي عاشوراء... السنة الثامنة». ويأتي نشر المقال في أجواء ولادة السيدة زينب (ع) التي صادفت هذه الأيام. أكاديمي كويتيalkhadhari@gmail.comTwitter: @dralkhadhari
مقالات
نفسياسي
في البدء كان الإعلام... في البدء... كانت زينب!
11:30 ص