منذ مدة لم أقرأ نصا جميلاً وممتعاً ومتأملاً بهذا الحد...آخر عناق لي مع كتاب بهذه الصفات كان قبل عام حين قرأت «شقيقة قلبي» لكاتبة هندية.الآن وحين عاودت قراءة رواية «الطائر الأبيض في المدينة الرمادية» للكاتبة استبرق أحمد، من منشورات دار مسعى - والذي بدا عنوانها معبراً، يقودني إلى عمق المدينة الملغزة ورفرفة الطائر الأبيض، وبعث غلافه الجميل شغفا سيالا - عدت لعناقي مع الرواية الجميلة.من فنيات العمل:1 - الرمزية البليغة والتي أدهشتني أكثر من مرة، فالعمل معزز بالرسائل.جاءت اختيارات الكاتبة ذكية جدا لكل شخصية، مؤثرة بارعة في كل جملة حوارية، وثمة سطور أثارت جمال التساؤل وأعادت تكوين الصور في الأخيلة.تقول إحدى الشخصيات «فرفور»: - «غريب أمرك. ألم يكن توفر هذه المشروبات و الأطعمة بكثرة سبب لانتهاء الملاحقات وصيحات الذعر بيننا فلم نعد نعكر صفو بعضنا؟ فلا جوع ولا أطماع، ألم تلغ عداواتنا وتجعلنا أصدقاء... أليس كذلك يا قطقوط»؟هذا السؤال يفتح نافذة لفهم أساس العلاقات المتوترة بين الأنا والآخر.كذلك موقف «ساطع»، الذي جاء مؤثرا جدا في مبنى الرواية، أربكني، حيرني، ثم قادني لجادة المحبة الشاسعة، حيث كرست الكاتبة فكرة تقبل الاختلاف وفهم المنطلقات والقبول بالذات، وعدم إيجاد مبرر آسنٍ كبركة الصودا والطعام المعلب لإيقاف دورة الطبيعة.الفارق والجذر هو محبة الآخر وتقبله والتماس العذر له، بشرط عدم الايذاء.وبالطبع أكثر ما أثر بي هو موقف الطائر الأبيض من ساطع. لقد ألمني إضرابه الحزين عن ملاقاته والسماع منه رغم أني امتلأت بالسخط على ساطع، وصدقت السلحفاة والنورس حين ابتلع الضفدع ولم أجد مبررا يشفع له إلى أن فهمت ذلك التباين.الجميل أن الكاتبة ترفع القارئ وتنزل به لتكسبه لذة الاكتشاف بنفسه وأدواته وتلقيه.والواقع أن استبرق برعت جدا في سكب روح النص عبر الرمزية الشاملة، فقدمت الشخصيات بإسقاطات مركزة، حين يلقطها المتلقي في النص تحيله مباشرة لشخصيات مهيمنة في الواقع، من لحم ودم، كالتمثال المعمم و المطرقة والألثغ والريح، وهذا ذكاء سردي.2 - الأنسنة أيضا كانت من الفنيات الراقية في النص، فالكاتبة تجيد تقديم التوازي الإنساني مع الشخوص: الجماد/ الحيوان/ النبات «الشجرة العجوز»/ والريح أيضا.كانت تلك مشغولات بليغة في لوحة الرواية.3 - صور النص كلها ديناميكية، لم يأت عنوان الرواية عابثا وهو يحمل لونين مختلفين، فاللون حضر كثيرا، بتضاداته، بزهوه، بكدورته، كانت الصور كلها تطش الألوان في النص وتصنع عالما حقيقيا يغبش العين أحيانا أو يجلي الرؤية.4 - أدهشتني لغة النص، فعلى بساطتها كانت بليغة جدا، خصوصا بعض الحوارات المشجعة التي تقوذ المتلقي للضحك أضحكتني كحوار التمثال المعمم.5 - القيمة: لفتتني القيم في النص، وعظتني من دون وعظ، فمن العمود المتفاني الناكر لذاته في سبيل مجد المدينة، إلى فرفور اللئيم الذي يقرض استقرارها عبر إنهاكها بالحروب والتأجيج في الساحات والحيل الخبيثة.الطائر الأبيض في البلاد الرمادية عمل جميل جدا، بتفاصيله، بغلافه المميز، بإخراجه، برسوماته المعبرة، عمل ستحب العودة لقراءته.
متفرقات
رؤية
التحليق مع «الطائر الأبيض» لاستبرق أحمد
07:28 ص