شاب الشجر من الحزن. جمد الموج. تساقط الغيم وصمتت الطيور. صار قوس قزح رمادياً وهجر الحنان حضن الأمهات مع رحيل استاذي ومعلمي الأستاذ إسماعيل فهد إسماعيل.لم أره من سنة تقريبا. اعتدت على زيارته في مكتبه بالصالحية مع ابنتي ونحن نحمل له باقة ورد ضخمة. وقبلها في مكتبه القديم. يعرفها منذ صغرها. يحادثها ويناقشها ثم تجلس في الزاوية تلتقط الصور لنا. حبيبي، كان يسأل عني ويتفقدني كلما صدرت شكوى جديدة ضد كتبي. كلما دخلت وخرجت من غرف النيابة والتحقيق وقاعات المحاكم حين كنت امشط اروقتها بينما المجرمون والمتهمون جالسون على الأرض مكبلين بالسلاسل. كنت اظل متماسكة وحين اخرج. انهار فاتصل به واحكي له باكية فيقول بصوته الهادئ: «اثبتي. كوني قوية. لا تتزحزحي».التقيته آخر مرة في دار العين بمصر، خلال ندوة لمناقشة روايته الأخيرة... وقد بدا شاحبا. أهديته رواية «شقة الجابرية»، التقطنا الصور وتكلمنا. ثم افترقنا على أمل اللقاء ولم نجتمع بعدها وكم انا حزينة لذلك. كيف مرت سنة كاملة لم نجتمع فيها على موعد، فإما هو مسافر أو أنا، أو تتضارب المواعيد والأزمنة والأمكنة. حزينة وغاضبة من نفسي. أعاتبها وأحاسبها وأتمنى لو بذلت مجهودا أكبر، أو حاولت أكثر لأراه ولو مرة أخيرة... قبل أن يداهمني خبر الوفاة كقطار مسرع لم أتمكن من تفاديه أو النجاة منه. فلم أتمكن من دعوته لحضور ندوتي في أمسية ملتقى الثلاثاء في أبريل الماضي. ثم لم أتمكن من زيارته سبتمبر الجاري. كانت الظروف تطاردني وضيق الوقت والهرولة لإنجاز أكبر قدر من المهام في أيام معدودات تغتالني وتسابقني. لذلك أعتذر عزيزي الغالي على تقصيري وجهلي وفقر حياتي وغباء انشغالي. أعتذر على كل خطوة خانتني ولم تأخذني لبابك ولحضنك، حين كنت تراني فتنهض وتغمرني حقول البنفسج والريحان في ابتسامتك العذبة. فأعرف أنني على صواب... كنت على صواب كل هذا الزمن. وأن لي إرادة من فولاذ. طالما أنك تؤمن بي وتأخذني لحضنك كل مرة. فتعال انظر كيف غرقت وفاضت مواقع التواصل بالكتابة لك، شهادات ومواقف ورسائل وصور. تعال انظر كيف فجعنا. كيف سالت دموعنا وارتجف نبضنا حين نزل الخبر كالصاعقة علينا.تعال اشهد كيف اجتمعنا رغم الخلافات والاختلافات على محبتك.تعال اشهد كيف ذابت كل الفروق والحدود والتحمنا كجسد واحد يحاول عدم السقوط من فرط الحزن.تعال انظر كيف حصدها ما زرعت فينا من ملائكية الحضور ونبل الأخلاق والكتابة العميقة والفكر المستنير ودرر المعرفة والحكمة وفلسفة التسامح والأصالة. تعال... رجوتك تعال تأمل كيف خرج الكويتيون والعرب والمثقفون والكتاب والعامة والضعفاء والاقوياء والصغار والكبار في تشييعك. كيف اتحدت الكويت وتناست أزماتها وداوت جراحها واغلقت فمها عن كل قول آخر سواك. لكل منهم قصة معكلكل منهم سر وحكاية معكضحكة أو دمعة أو نزهة أو كلمة أو لوحة... معكوداعا استاذي ومعلمي، صديقي، رفيق رحلتي وقلميكأن أبي يموت من جديد وأصير يتيمة ثانيةسلام على روحك النقية وفكرك المتقد وقلمك المدهش وقلبك المضيء. سلام على يدك الحبيبة وعلى عينك المغمضة تحت التراب. سلام... سلام.
مقالات
بوح صريح
وداعاً إسماعيل فهد إسماعيل
01:44 ص