من الملاحظ أن هناك فئة من الناس ممن يقدمون النصح لغيرهم والذي يتضمن القيم والمبادئ السامية والأخلاقيات النبيلة، وقد ينتقدون غيرهم سلبا، ويعيبون عليهم، وهم ليسوا أهلا لذلك، فهم ينهون غيرهم عما يفعلونه هم أنفسهم. قالت لي أستاذة زميلة في الجامعة يوماً، ونحن في استراحة أعضاء هيئة التدريس: «لقد تدهورتْ علاقتي بصديقتي بسبب شعوري بالملل والنفور من توبيخها المتواصل لابنتي التي لم تقرر ارتداء الحجاب بعد، علما بأن ابنتي لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها، ونست صديقتي أن ابنتها كانت قد قررت ارتداء الحجاب حين بلغت العشرين من عمرها» وتواصل الزميلة: «كنت أستغرب من أنها تبرر عدم ارتداء ابنتها للحجاب بأنها لاتزال صغيرة في سن المراهقة، وأنها تحتاج لوقت للتفكير حتى تتخذ مثل هذا القرار». وقال لي قريب: «لي صديقٌ من الذين يُلحّون على الناس بالتبرع للفقراء والمساكين والمعوزين، وحين أرى تعامله مع المستخدم الذي يعمل في ديوانيته الأسبوعية، فإنني أرى أبشع معاملة لهذا المسكين الذي تغرّب لإعالة أسرته في بلده البعيد جدا، كانت معاملته له مزيجاً من الفوقية والقسوة والإذلال». وأذكر هنا بعض المدربين والمحاضرين الذين يوهمون الناس بأنهم صناع المعجزات في خلق العلاقات الأسرية المثالية، وذلك بحل الإشكاليات العلائقية بين الزوج والزوجة والأطفال، ومن زاوية أخرى هناك من يسمّون أنفسهم صُنّاع السعادة ومُدرّبي الحياة الذين يعطون الناس طبقاً من ذهب فيه تحقيق الأحلام والأماني، وفي ذات الوقت تكتشف أن هؤلاء المدربين يعانون من مشاكل نفسية وأسرية كبيرة، حيث التفكك الأسري، والتعنيف الجسدي والنفسي من الزوج، وتعنيف الأولاد والتقصير في حقوقهم، وغيرها من المشاكل. وهناك نموذج آخر وهو بعض وُعّاظ الدين والدُّعاة ممن ينهون الناس عن فعل شيء وهم يفعلونه، فيكون الأمر في نظرهم حراما على الناس فعله، وحلالاً عليهم! وهنا نستشهد بقول الله تبارك وتعالى وقوله الحق: «أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون». ولانقصد هنا أن يُترك الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، ولكننا نقول عليهم أن يبدأوا بأنفسهم، وأن يطبقوا ماينصحون به الناس، وهكذا تكون التناقضات الغريبة التي لايقبلها العقل، وفي كل ماذكرناه من نماذج فإننا لا نعمم على الناس، ولكننا نتحدث عن واقع ملموس فهذه النماذج موجودة، وإن كانت حالات إنسانية محدودة، ولابد من الإشارة إليها، والالتفات لها، ونتذكر هنا قول أبي عثمان الحيري: وغير تقيٍّ يأمرُ الناس بالتُقىطبيبٌ يداوي الناس وهو عليلوهكذا كثر المُنظّرون والمعالجون والمدرِّبون من كل نوع وصنف بشهادات تؤهلهم لذلك وبلا شهادات، وكثُـر الوعاظ والمرشدون في عصر كثرت فيه المعاصي والمنكرات، وتهشّمت فيه قيم الحياء والستر والخصوصية، تحت بند الانفتاح والتمدن والتحرر، وليس العيب في الزمان، وإنما في نفوس البشر وقلوبهم التي لم تتجه في مسارها إلى طريق النور برفقة كتاب الله عزّ وجل وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.