دخل أخي فتحي إلى صالة الاستقبال في البيت وأنا أرمقه بطرف عيني وقد تناوشته الأيادي، وتلقفته الألسن، واعتصرته العيون، وبحكم وظيفته في المباحث الجنائية فهو يتمتع بجلد على المواقف العائلية، ويعرف ماذا سيقول وكيف سيقول ومتى سوف يقول...لم يمكث كثيرا... عاد إليّ قائلا: يقول أبي إنك لم تضع اللقمة في فمك منذ الصباح... تعال معي إلى الداخل لنأكل مع بعض... وإذا بي أضغط على كتفيه بيديّ صارخا في وجهه: ليس قبل أن أعرف ماذا حلّ في بلدي... هل هي طعنة بيت؟ أم هو رمح جساس؟ أم هي حرب خسرناها؟ إنما هو رمح سافل تجاوز حدوده، ونقض عهوده، واستباح حرماتنا، فلم يجرؤ على مواجهتنا، ولكن هيهات له أن ينال منا... هيهات.«يا حاشـرا لجيوش الغـدر تدفعهانحو الكويت لقد ضلت مساعيهاإن الكويت معان لست تفهماإن الكويت بحور لن تجاريهالا تحسب الدار بنيانا فتهدمهأو خزنة من نضار أنت سابيهافالدار في ملة الأحرار عاطفةقدسية أنت لا تدري معانيهايا غازيا بلد «الهولو» لقد جمحتبك الظنون إلى أقصى أقاصيها وسوف تعلم أن الظلم مركبةصعب وأنت الأسى يحيي مآسيهاإن شاء ربي أعاد الكون دورتهوعدت مثل سراب في فيافيهاوعدت مثل قتاد سوف تطمسهريح الكويت إذا هاجت سوافيهاوعدت مثل جفاء سوف يدفعهموج الكويت بعيدا عن شواطيهاوكل دمعة طفل سوف تدمعه عين الطغاة ولو جفت مآقيهايا أنت يا قاذفا أرض العراق إلىقعر الجحيم، لقد دمرت ماضيهايا من جعلت سما بغداد خائفةمن الغيوم وقد جفت مراعيهايا من تصورت صبر الناس مسكنةغدا تريك الليالي بعض ما فيهاإن شاء ربي أعاد الكون سيرتهوفيك تختتم الدنيا مآسيها»(شعر عبد الله العتيبي شاعر الوطن والوطنية). نعم يا طائر البشرى لن ينال منا ورب الكعبة... أبي متشنج الجلد واليد فاغرا فاه لا يعلم مصير أبنائه، أمي خائفة ناهدة، لم تقوَ ركبتاها على حملها.. نجتمع تارة، نفترق تارة، وتارة أخرى ننفرد بأنفسنا.انتصف الليل، رصاص يتراشق فوق بيتنا، يخترق أوراق الأشجار، تفجيرات متقطعة، دويّ يزحف إلينا زحف الأفاعي الخبيثة الماكرة، نوايا مبيتة في بيوت الجيران، في الربع الأخير من ليلة الجمعة، تحلقنا حول بعض في صالة الاستقبال، أسئلة يتيمة، إجابات عقيمة، ضرب مفزع في الباب الرئيس للبيت، سـُحبت أرواحـُنا، تهاوت ركبـُنا، تجلد بعضنا، قمنا لنتمترس. أمي: ... لا تفتحوا الباب... خذوا حذركم..أبي يخرج من غرفته: انتظروا... انتظروا... انتظروا... فرحتي بنطق أمي أنستني خوف خبر الطارق... إنه أخي خليل المجند... ممزق الثياب، إصابات طفيفة على سطح جلده، مغبرّ الوجه، تساقطت عليه الأفواه بالقبل المخنوقة، الكل يتحسسه برفق ويأس، ها هي بعض الأنفاس تحيي الأمل في نفس أمي، وحزن عينيها يقول لها ما زال هناك ابنك ناجي وابنك عماد، أسئلة كثيرة تلتف حولها... تشلّ تفكيرها... تحوّل أنظارها... تمارس هوايتها في غفلة من الزمن... تريق دمها وتهدر دموعها وتشعل الفتن... ها هي تقف وسط الطريق بين الأمل، أمل وصول ولديها وبين الآهات المحمومة، تلفها صور من الذكريات، مصحوبة بأشباح ورسومات، هنا ارتفعت هي وأولادها، هنا نزلت، هنا جلست وهنا أكلت، هنا ضحكت وضحكنا معها، هنا تنازعنا وتداعبنا ومرحنا، لماذا في غيابة الجب نرمى ؟ لماذا في مفترق الطريق نترك؟ لماذا وقد كنا نحلم ونحلم، لماذا نحرم؟ لماذ... ؟ لماذا...؟* كاتب وباحث لغوي كويتي- المصدر: رواية ( الكويت في قلب شاعر- 2 /8 /1990حتى 26/2/1991 )fahd61rashed@hotmail.com