لقد كَتَبت هذه الكلمات بعد أن استمعت لأغنية فرقة رباعي الكويت «بشارع الجهرا صادفوني... ثلاثة رايحين الصالحية» والتي تم إنتاجها في أوائل الثمانينات وحققت نجاحا منقطع النظير بين أبناء جيل تلك الأيام؛ وأنا أحدهم بالطبع، وما زالت أنغامها وكلماتها تعيش في مكان ما في ذاكرتي ومنها أخذني الحماس وانطلقت في رحلة الكتابة الشيقة بشغف ولهفة شديدين.قد يبدو للقارئ عدم وجود علاقة بين تلك الأغنية وشخصية هذا العالِم ولكن الحقيقة أن ما يجمع بينهما أن كلاهما يعيش في وجداني وترك فيه أثرا بالغا، وشكل جزءا مُهمّا من رصيد ذكرياتي التي أحبها وأعشقها.إنه الشخص الذي ننتظره بكل شوق كلما حدث تغير في الطقس أو دهمتنا العواصف الرملية أو السرّايات أو الرطوبة الشديدة، واسمه ارتبط برمضان وعيد الفطر في كل عام ومنذ عقود طويلة، إنه العلامة الدكتور صالح العجيري مؤسس علم الفلك في دولة الكويت وصاحب الفضل والريادة في نشأة أول مرصد فلكي فيها وبمساندة ودعم مباشرين من المغفور له بإذن الله الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، ولاحقا صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح حفظه الله ورعاه.متحدث لبق يمتلك مخزونا هائلا من المعلومات في ذاكرته الأصيلة والتي نشأت في البادية والحضر على أهمية العلم والعلماء، له حضور قوي في أي مقابلة تلفزيونية تمت معه وهي بالمناسبة بالعشرات إن لم تكن بالمئات. سِنّه ضاحك وتسلسل أفكاره متناسق ينم عن بصيرة قوية وسعة اطلاع تشدك للشاشة فتمضي معه أوقاتا مثمرة وخفيفة وهذا بالضبط ما حصل معي طوال متابعتي لكل مقابلاته التلفزيونية واحدة تلو الأخرى.لا أذكر أبدا متى بدأت ذكرياتي مع العجيري ولكنها بعيدة جدا حيث إني لا أتذكر منها إلا القليل عندما كان يحرص والدي على أن يجلب مع كل مطلع عام ميلادي جديد أجندة العجيري أو تقويمه الجداري كي نكون على معرفة تامة بأحوال الطقس وتغيراته وأوقات الإمساك عن الطعام وصلاة المغرب في شهر رمضان.ما أجمل أن يقترن اسم أحدهم بمناسبة جليلة كشهر رمضان وما أجمل أن تكون طلته علينا مقرونة بما ينفعنا في ديننا ودنيانا، صحيح أن العجيري أطال الله في عمره لم يكن هو الوحيد الذي كان له بصمة خاصة في شهر رمضان، فهنالك العديد من الشخصيات مثل عبدالحسين عبدالرضا وعبدالله النوري وعلي الجسار وغيرهم رحمهم الله جميعا كانوا ممن حملوا رايات الخير وأشاعوا النور وزرعوا البسمة على الشفاه، إلا أنه كان ذا خصوصية مختلفة تماما عن غيره. لقد كانت فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي فترة نبغ فيها الكثيرون وبزوا أقرانهم في العالم العربي ونشأت في ما بينهم منافسة شريفة كل في مجال تخصصه حتى وصل الحال إلى أننا كنا نتسمّر أمام التلفاز لفترات طوال ونحفظ لهم هذا الفضل في قلوبنا وذكرياتنا.والعجيري على الرغم من تقدمه في العمر (حفظه الله ورعاه) إلا أن عطاءه لم ينضب وسعيه لم يتوقف فلم يردعه العمر ولا المرض من أن يستمر في عطاءاته التي شهد لها القاصي والداني وهذا والله لهو سر هذا الرجل الذي جعل منه شخصية محبوبة وأحد رواد علم الفلك في العالم العربي، كيف لا وقد قضى جل عمره في البحث والاستقصاء والتعلم ومرافقة العلماء ومتابعة مستجدات علم الفلك حتى أمسى علامة بارزة في تاريخ الكويت الحديث الذي لا يغفله أو يتجاهله إلا ناكر أو جاحد.تمكن الدكتور العجيري خلال السنوات الماضية من أن يكون مدرسة فلكية وموسوعة علمية وتشهد أعماله بذلك، وما كلماتي هذه إلا نقاط في بحور الثناء والشكر التي تلقاها طوال السنوات الماضية، ويكفيه فخرا وزهوا أن كل أهل الكويت يدعون له بطول العمر ودوام الصحة والعافية لكل ما قدمه لوطنه من علم ينتفع به ورصيد أخلاقي يحتذي به.والبداية مع تلك الشخصية تشعرني بنوع من التحدي ذلك أن الكتابة عن شخص له هذا الرصيد الشعبي والشغف العلمي الوفير يشكل عائقا عسيرا أمام أي شخص يحاول أن يتناول سيرته العطرة، فلطالما كانت الكتابة بحد ذاتها أمرا عسيرا، فما بالك إن كانت الكتابة عن صالح العجيري الذي أمسى صيته على كل لسان وفي كل وسيلة إعلامية وعندها سيكون من الصعب أن أكتب عنه ما قد يلفت الأنظار أكثر مما قيل فيه أو أكثر مما ذكره شخصيا.لقد تميز العجيري بشغفه العلمي بشكل فريد قل نظيره إلا بين البعض ممن كان العلم ديدنهم ولم يقف أمام طموحاتهم عائقا إلا وتجاوزوه ولا ساترا إلا وقفزوا من فوقه، وقد يكون من حسن حظه أن القيادة السياسية في دولة الكويت كانت على علم بجهوده ولذلك فإنهم لم يبخلوا بدعمه ومساندته لتحقيق أحلامه وطموحاته وهذا ما لم يتحقق على الأغلب لمعظم علماء هذه الأمة العربية، وقد يكون الدكتور أحمد زويل (الحائز جائزة نوبل في الكيمياء) نموذجا واضحا لما يتعرض له العالِم العربي من سوء تقدير وتجاهل واضح ما جعله يعود لأمريكا ويخدم فيها بقية عمره إلى أن وافاه الأجل حزينا على فراق وطنه ومسقط رأسه.z_alweher@hotmail.com
محليات - ثقافة
شخصيات من الذاكرة
صالح العجيري (1)
09:00 م