«كعكة» الشهرة لا توزَّع بالتساوي بين الفنانين!فإذا كان قلة من فناني الدراما يحتلون دائرة الضوء الساطعة، ويقتسمون البطولة الأولى في ما بينهم، فإن هناك جيوشاً من الممثلين الذين قد يكدحون أمام الكاميرات، أو يبذلون العرَق والدموع على خشبات المسارح. ومع أنهم ربما لا يقلون موهبةً وإبداعاً عن فناني الصف الأمامي، نراهم حبيسين في دائرة «السنيد»، أو «البطل الثاني»، أو «مساعد البطل»... أياً كانت التسمية، فإن هؤلاء يبقون في دائرة «الضوء الخافت»، وقد يعترف الجميع بمواهبهم، بل يستفيدون منها في أعمالهم، ولكنهم يأبَون أن يمنحوهم قسطهم المستحق من أدوار البطولة الأولى، أو «كعكة الشهرة»، أو يتيحوا لهم الوقوف في دائرة الضوء الساطع!«الراي» رصدت مسيرتي اثنين من أبرز نجوم البطولة الثانية، أحدهما كويتي هو الفنان القدير محمد جابر العيدروسي، والآخر هو النجم المصري حسن حسني... ظروفهما الفنية متشابهة إلى حد بعيد، فالاثنان مبدعان حقيقيان، وكلاهما تجاوزت رحلته الفنية الخمسين عاماً بسنوات، وكل منهما شارك بفعالية وبصمة عميقة التأثير في أعمال تلفزيونية ومسرحية أكثر من أن تُحصى لا تزال باقية في وجدان الناس... وبالمقابل كلاهما ظل حبيساً في الأدوار الثانية، وكأن حواجز غير مرئية تعوقهما عن الدخول عبر بوابة البطولة الأولى! فما الأسباب التي حالت بين العيدروسي وحسني وبين الاقتراب من أسوار البطولة المطلقة؟ وهل تكمن هذه الأسباب في الفنان ذاته، أو في المناخ الفني، أو ربما في دوافع إنتاجية... أو في ظروف تاريخية تتجاوز هذا كله؟«الراي» حاولت أن تطرق الأبواب... بحثاً عن إجابة!      محمد جابر، الذي بدأ مسيرته الفنية في مطلع الستينات من القرن الماضي - وقت ظهور حسن حسني تقريباً - من خلال تمثيلية تلفزيونية قدمها مع الفنان محمد النشمي، قبل أن يسطع نجمه من خلال شخصية «العيدروسي» التي قدمها أول مرة في مسرحية «اغنم زمانك» في العام 1965.وبالرغم من مشواره الطويل كممثل، الذي قدم خلاله العشرات من الأعمال التلفزيونية والمسرحية إلى جانب الأوبريتات، ومن بينها أوبريت «بساط الفقر»، ظلت هناك دائماً حواجز غير مرئية تحول بينه وبين أن يطلَّ - ولو يوماً - كنجم أوحد، إذ لم يحظ بالبطولة المطلقة في أي عمل على مدى مسيرته الحافلة، أسوة برفقاء دربه الفنانين، من طراز عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج وعبدالله الحبيل وغيرهم من عمالقة الفن الكويتي والخليجي... بل إن اسم الفنان محمد جابر العيدروسي بقي بعيداً عن صدارة الملصقات المسرحية و«تترات» المسلسلات أو حتى السهرات التلفزيونية، متراجعاً عن الطبقة الأولى من الأسماء الرنانة والنجوم الساطعين منذ بداية ظهوره حتى يومنا هذا. وشأنه شأن نظيره المصري حسني، وبرغم اعتراف الجميع بموهبته وقدرته على تلوين أدواره المتباينة وطول رحلته الفنية التي ناهزت الـ 53 عاماً، فإنما غالباً ما يأتي اسم العيدروسي تالياً لدائرة البطولة، وفي منتصف القائمة أحياناً، أو يدخل من باب ضيوف الشرف أحياناً أخرى. ففي مسلسل «علاء الدين» - على سبيل المثال - أدّى العيدروسي أحد أهم الأدوار الكوميدية، فمن لا يتذكر المقدمة الغنائية التي تغنى بها مع خالد العبيد، ونالت حظها الوفير من الشهرة في مطلع الثمانينات، والتي يقول العبيد في مطلعها: «أنا الأقشر»، ثم يرد العيدروسي متحدياً: «وأنا الأقيشر». لكن المفارقة أن اسم العيدروسي في تتر المسلسل حلّ في ذيل القائمة، بعد خالد العبيد وجاسم النبهان وسعاد حسين وعائشة إبراهيم، وكذلك الحال في مسلسلات كثيرة على غرار «مذكرات بوعليوي» و«محكمة الفريج» و«درس خصوصي» و«الجوهرة والصياد»... والقائمة طويلة. لا أحد إذاً يُنكر تاريخ العيدرسي كفنان أثرى الساحة الكويتية بـ «قفشاته» الشائقة، وبخفة دمه المعهودة في مسرحية «باي باي لندن».كما لا يمكن أن نُغفل أداءه الباهر وأسلوبه الممتع عبر «إفيهات» تميز بها عن بقية الفنانين من جيله، سواء في «مذكرات جحا» أو في مسلسل «شرباكة»، وباقة أخرى كبيرة من الأعمال، لكن أدواره كانت حبيسةً دائماً في خانة الأدوار الثانية والسنيدة للبطل، في الوقت الذي يعلم فيه الكثيرون من الجمهور والمتابعين على السواء أن العيدروسي كان يتفوق في عدد غير قليل من الأعمال على أبطال من الصف الأول، ولكن يبدو أن الحواجز غير المرئية ظلت تفعل فعلها في منع الرجل من اختراق دائرة البطولة الغارقة في الضوء. فقد استعان به كل من الفنان عبدالحسين عبدالرضا والفنان خالد العبيد، وسعاد عبدالله وحياة الفهد، بالإضافة إلى أن عدداً من النجوم الشباب الحاليين استفادوا من نجوميته في أعمالهم، وكأن الجميع يعرفون قيمة هذا الفنان واتساع قماشته الإبداعية، وقطفوا ما شاؤوا من أزاهيرها، لكن أحداً لم يفكر في أن يُسند إليه أياً من أدوار البطولة الأولى، فظل بطلاً في المربع التالي، مربع الضوء الخافت المشهور في الساحة الدرامية بمربع «الأبطال المساعدين، أو السنيدة»، وهو الأمر ذاته الذي عاشه وربما عاناه حسن حسني أيضاً. ولأستاذ الدراما وعلوم المسرح الناقد الدكتور نادر القنة رأي خاص حول الفنان محمد جابر، إذ قال لـ «الراي»: «علينا أن نفرق بدايةً من الناحية العلمية بين النجومية الإنتاجية والنجومية الإبداعية لمعرفة موقع الفنان محمد جابر في المشهد المسرحي الكويتي استناداً إلى مسار تاريخه الفني الذي تجاوز اليوم نصف القرن من الزمان. فإذا كانت النجومية الإنتاجية تعتمد على معطيات السوق الفنية، وعلى حسابات اقتصادية تتعلق بتسويق المُنتَج الفني، بحيث تجعل من هذا الفنان أو ذاك نجماً لامعاً، فإن النجومية الإبداعية لا شأن لها بهذه المعايير، إذ كل همها تقديم عمل ناجح بعناصر فنية ناجحة».وتابع القنة أن «جابر عبر تاريخه الفني الطويل، وعبر ما قدمه من عروض مسرحية، وأوبريتات غنائية، وأعمال درامية تلفزيونية، تمكن من صناعة نجوميته الإبداعية، لتضعه مجتمعةً في مصاف نجوم الصف الأول، وتعوضه عن النجومية الإنتاجية بمقاييسها التفردية ذات الطبيعة التسويقية، فهو صاحب أدوات فنية متكاملة البناء والنضج، وصاحب ملمح كوميدي خاص، ما كان له ان يتفوق به، دون سيطرته على أدواته الفنية والعمل على تنميته وبلورته وصياغته بالنهج الصحيح». هذا من جانب، يقول القنة: «ومن جانب ثان، فإن جابر وُلد فنياً في عصر الكبار: عبدالحسين عبدالرضا، خالد النفيسي، سعد الفرج، غانم الصالح، عبدالعزيز النمش، أحمد الصالح، إبراهيم الصلال، عبدالرحمن الضويحي... وغيرهم كثير، ممن تفننوا في تجسيد الشخصيات النمطية والكاريكاتيرية، التي كانت تتناسب وطبيعة المرحلة في تاريخ الدراما الكويتية»، مشيراً إلى «أنه لهذا السبب، قضى جابر فترة من الزمن، أكثر مما يجب، في رداء الشخصية الكاريكاتيرية (العيدروسي)، ذات الملمح الكوميدي، وذات الطبيعة الصوتية والأدائية الخاصة، سواء على المستوى الفيزيائي للشخصية ومتطلباتها، أو على المستوى الكيميائي للشخصية وتفاعلاتها، في الوقت الذي تحرر فيه الكثير من زملاء دربه من شخصياتهم النمطية والكاريكاتيرية، واتجهوا إلى تقمص الشخصيات الدراماتيكية، والأداء الدراماتيكي، فكانوا أسبق منه إلى احتلال مواقعهم المتقدمة في صف النجومية الإنتاجية... ولكن هذا لا يقلل من حجم نجوميته الإبداعية التي ساندت كثيراً نجومية زملاء الدرب، وحققت للأعمال الفنية المشتركة عوامل النجاح الفني والجماهيري والتسويقي».  القنة واصل قائلاً: «إن محمد جابر لم يجد المخرج العبقري القادر على تفكيك أدواته وإطلاق مكنونات إبداعه وفق صياغة تمثيلية جمالية جديدة، بعيدة عن اشتغالات ومقومات الأداء الكوميدي للشخصيات الكاريكاتيرية والنمطية».حسن حسني إلى هذه الكوكبة المظلومة ذاتها ينتمي الفنان المصري القدير حسن حسني، جوكر الدراما، صاحب الثروة الفنية التى تجاوزت 450 عملاً ما بين سينما ومسرح وتلفزيون. هو يمثل نوعية نادرة من الفنانين، ومن وقت إلى آخر، وبينما يظن جمهوره أنه اكتفى برصيده الذي قدمه عبر مشوار حافل يقارب الستين عاماً، يفاجئ حسني الجميع بأعمال جديدة ومتفردة، يشهد بها كثير من النقاد والفنانين.ومع ما يمثله هو من «مشهد فارق» في تاريخ الدراما، هناك أيضا مشاهد فنية جمعته بآخرين، مثلت «مشاهد فارقة»، ومن بينها مشهد جمعه بالفنان ياسر جلال في مسلسل «رحيم»، ليقول حسن حسني من خلال هذا المشهد: «إن الموهبة ليس لها عمر». المسرح العسكريكانت بدايته الفنية في العام 1962، من خلال المسرح العسكري، وفي هذا الصدد قال حسني لـ «الراي»، إن الشؤون العامة للقوات المسلحة، في فترة الستينات، عمدت إلى تأسيس فرقة خاصة من الفنانين تقدم عروضها للجيش تحت اسم المسرح العسكري، وهي الفرقة التي ظلت موجودة حتى تقرر حلها عقب نكسة 1967، بعدما شن البعض الهجوم عليه.وأضاف حسني أن الفرقة كانت تقدم كل العروض، طوال شهر رمضان بشكل خاص لعائلات الضباط، موضحاً أنه كانت هناك لجنة شُكلت لاختيار الفنانين في المسرح العسكري، وكان هو أحد الفنانين الذين وقع عليهم الاختيار، وكان الفنان حسن عابدين زميلاً له في هذه الفرقة، بعد ذلك قدم حسني مجموعة من المسرحيات، من خلال أدوار صغيرة مثل «روبيكيا» و«كلام فارغ»، وفي نهاية السبعينات اتجه إلى الدراما، من خلال دور صغير في مسلسل «أبنائي الأعزاء شكراً» من خلال شخصية الموظف الفاسد. مخرجو الثمانينات استطاع جمْع من المخرجين تغيير شكل الأدوار التي يقدمها حسن حسني، حيث قدم أدواراً مهمة في أفلام تستعصي على العد، من بينها الكرنك والهروب والبريء وسارق الفرح وزوجة رجل مهم وسواق الأتوبيس وفارس المدينة والهجامة وعفاريت الأسفلت، ومعظمها مع المخرجين المتميزين عاطف الطيب وعلي بدرخان ورضوان الكاشف وداود عبدالسيد، ويذهب المتابعون إلى أن هذه الكوكبة من المخرجين هم من صنعوا نجومية حسني في السينما، قبل أن يأتي غيرهم ليستعينوا بموهبته المتلونة بكل الأقنعة الفنية الممكنة في أفلامهم، ومسلسلاتهم. مع جيل هنيديوتعد فترة التسعينات في القرن الماضي، من أكثر السنوات التي قدّم فيها حسن حسني أعمالاً سواء في السينما، أو في الدراما التلفزيوينة، وهي الفترة التي خرج فيها جيل من الممثلين الكوميديين الشباب، ومنهم محمد هنيدي ومحمد سعد وهاني رمزي وعلاء ولي الدين وأحمد حلمي، بجانب أحمد السقا وكريم عبدالعزيز، حيث اعتبروه جميعاً هو تميمة حظهم، والقاسم المشترك الأبرز في أعمالهم.وفي كل أفلام الشباب كان حسني يفاجئ الجمهور بكاراكتر مغاير وارتفاع في الأداء بلا سقف، ومع كل هذا التفوق في الإبداع والانتشار المفرط في الأعمال والشهرة الطاغية وسط الجماهير المصرية والعربية، لم يتبوأ قط مكانة البطل الأول، بل كان دائماً في موقع «السنيد»، مكتفياً برداء «البطل الثاني». نجم استثنائيوعن مسيرته الحافلة التي شهدت كل هذا الإبداع، وفي البداية تتحدث الناقدة المصرية ماجدة موريس، عن التألق الدائم لحسني قائلة: «هو من الفنانين الذين لم يحصلوا على حقهم الفني برغم موهبته العريضة، ويعود جزء من ذلك إلى ظهوره في وقت كان يتربع فيه جيل غير عادي على قمة العصر الذهبي للسينما، والذي ضم عمالقة مثل محمود مرسي وصلاح منصور وغيرهما، ولذا لم تتزايد أدواره ولم ينتشر صيته بين أفلام الشباب، إلا بعد رحيل هؤلاء النجوم، وأصبح مكانهم خالياً، ولم يستطع أن يستغله بحرفية سوى حسن حسني، ما جعله تميمة الحظ لمعظم أفلام جيل التسعينات والألفية الجديدة، ومع كثرة أدواره لم يستطع الكثير من المخرجين الذين تعامل معهم، أن يخرجوا موهبته الكبيرة، مثلما فعل مخرجون مثل عاطف الطيب الذي أعاد اكتشافه في فترة الثمانينيات وأطلقه من الدائرة الضيقة التي حاصره فيها المخرجون السابقون، والتي اقتصرت على أدوار الشر».وأعطت موريس الفنان حسن حسني لقب «قاهر الأجيال»، لأنه تعامل مع فنانين من أجيال مختلفة ونجح معهم جميعاً.وعن أهم الأدوار التي قدمها حسن حسني من وجهة نظرها قالت موريس: «حسن حسني قدم عبر مشواره أدواراً كثيرة مهمة، فمثلاً في الجزء الثاني من مسلسل (أبو العلا البشري) قدم شخصية رئيس العصابة بشكل جيد، وأعتقد أن الأساس في إبداع الممثل بجانب موهبته هو إدارة مخرج ونص جيد، وقد استطاع ثلاثة مخرجين أن يُظهروا أفضل ما في موهبة حسن حسني، وهم محمد فاضل في أبوالعلا البشري، وداود عبدالسيد في فيلم (سارق الفرح)، وعاطف الطيب». وأخيرا وصفت ماجدة موريس الفنان حسن حسني بأنه «ممثل استثنائي بكل المقاييس». استمرار التألقمن ناحيته أكد الناقد المصري محمود قاسم أن «الممثل في التلفزيون أو السينما، يتأثر نجاحه بنظرة المخرج إليه ومعرفته بإمكاناته».وتابع: «حسني قماشة عريضة ومتعددة الخيوط، ويقدم كل الأدوار باقتدار، فليس من الضروري أن يكون بطلاً مطلقاً في الأعمال التي يشارك فيها فهو نجم في دوره. فمثلاً في فيلم (دماء على الأسفلت) قدم دوراً عظيماً مع نور الشريف، وحصل من خلاله على أحسن ممثل مساعد».وأشار محمود قاسم إلى «أن حسن حسني عبر مراحل عمره الفني، الذي بدأه قبل 57 عاماً، كان يمتلك تنوعاً واسعاً في ما يقدم، سواء في أدوار الخير أو الشر، وإن كان قدم أفلاماً كثيرة خفيفة».