الفنان ليس ملكا لنفسه؛ فلا يحق له الاستقالة أو التقاعد أو العزلة. الفنان لا يصدأ، ولا تنتهي صلاحيته، لأنه يحمل رسالة اجتماعية عالمية. الفنان بفنه يتجاوز حدود الوطنية والقومية والمذهبية والعرقية إلى ما هو أسمى وأرفع من ذلك ألا وهي الإنسانية. الفنان ذاكرة رصينة، تاريخ حافل بالإنجازات، حياة مليئة بالتفاني والعطاء، الفنان مرآة عاكسة للمجتمعات يعالج قضاياها، ويرصد ظواهرها، ويحاكي عاداتها وتقاليدها وأعرافها.الفنان كلما كبر في السن؛ علا شأنه، وسمقت قامته، وازداد حلاوة وطلاوة وألقا وحضورا، وازددنا حبا فيه، وتوقا لرؤيته، وشغفا بحديثه.الفنان ضحى بصحته وبحياته الأسرية والاجتماعية وبراحة باله واستقراره من أجل إسعادنا وإمتاعنا، فهل يستحق منا مقابل ذلك جحودا مثل أن نقوم بعزله، ونحجر عليه في داره، ونحكم عليه بالموت البطيء لمجرد أن السن تقدمت به؟! فأي إنصاف هذا؟! وأي عدالة تلك؟! وأي شريعة سماوية أعطتنا الحق أن نقبض أرواح البشر متى ما كبروا وشاخوا وهرموا وعجّزوا؟! هل نحن من وهبناهم الحياة حتى نستردها منهم بعد أن قررنا وبأنانية بغيضة أن صلاحيتهم في الدنيا قد انتهت؟! أهكذا نبرّ أجدادنا وآباءنا؟! فكيف بفنان يسهر الليل بطوله لتصوير المشاهد متحملا المؤثرات الضوئية والصوتية، وهو يصارع عينيه في النهار لقراءة السيناريو وحفظه، لا يستلذ نكهة طعام ولا يستشعر زُلالة ماء، ولا يهنأ بجو عائلي خاص، ثم نأتي نحن وننسف هذا كله لنقول له الزم بيتك ولا تخرج لأنك كبرت وشخت وهرمت وعجزّت، وجهلنا بأن الفنان كلما كبر كبرت همته وكثرت خبرته وقدم أدوارا مختلفة وهادفة، ولعب دورا هاما ومهما في حياتنا، وحتى لو لم يقدم أدوارا، حتى لو لم يمثل أو يمارس فنه، فوجوده على الساحة مكسب وحافز ومشجع للأجيال الصاعدة من الفنانين الذين سوف يتسلمون الرسالة السامية والمخلصة بكل حب ووفاء. لعلنا نستسهل عمل الفنان، بل ونحسده فنحن نرى فنا كاملا ومتكاملا بصورته النهائية؛ فنظن أن الفنان يعيش حياة مرفهة مترفة قوامها البذخ والحفلات والسهرات وجوائز وسجادة حمراء، والحقيقة خلاف ذلك، فإن «الوسط الفني كما يطلق عليه من أصعب المجالات مهنة وأعتاها وجودا، إن مجرد سقطة واحدة فنية تقنية للفنان- للأسف- لا تغتفر، وحتى لو غفرها الجمهور؛ فلن يغفرها الناقد- ولاسيما- صغار النقاد الذين ينتظرون مثل هذه الهفوات ليقتاتوا عليها».الفنان في الأصل هو إنسان وفي النهاية هو إنسان؛ فإذا لم يتسن له التواصل المباشر مع جمهوره في بداية مشواره بسبب زحمة العمل الشاق والمرهق، فلا أقل أن يلتقي بهم بعد هذا المشوار الطويل، من منا لا يحب الثناء والإطراء؟! ينقل لي أحد موظفي سفارتنا سلاما حارا من زميله الديبلوماسي في دولة أخرى، ويقول له إن الأستاذ فهد قام بتدريسي في المرحلة الثانوية، فكم كنت سعيدا وأنا أتسلم هذا السلام وأسمع هذا الكلام، ويصدف في كثير من الأحايين وفي مكان عام يتقدم لي شخص بأولاده ويسلم علي قائلا: مرحبا أستاذ فهد، ما عرفتني أنا طالبك درستني في الثانوية. فكنت حينما أسمع مثل هذه الشهادة أمشي مزهوا متبخترا أمام من معي، لأن هذا الشخص كان طالبا من مخرجاتي التربوية والعلمية، وقد حفظ لي حق الوفاء.أمي التي حملتني وهنا على وهن، وربتني بسهر الليالي، ومثلت كل الأدوار مرّها وحلوها، وحملت عبئي حتى كبرت، اليوم وهي مقعدة على الكرسي المدولب تذهب إلى سوق المباركية بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع تسرّي عن نفسها مستأنسة بمن حولها، فهل يحق لي أن أحرمها متعة التواصل مع الناس والأجناس، وهل يحق لي أن أحرمها من رؤية معالم بلادها، وأفرض عليها إقامة جبرية، خوفا من إحراجنا بعد أن كبرت في السن وتقدم بها العمر، ألا تبا لألسنتنا، وسحقا لأقوالنا وأقلامنا، وصهٍ لأصواتنا النشاز التي تجردت من إنسانيتها. اليوم يجب على الفنان أن ينصر الفنان في أي مكان وزمان ومن أي جنسية كانت يحملها الفنان، وعلى نقابات الفنانين أن تؤازر بعضها بعضا في جميع الدول، وفي حال تعرض أي فنان للإساءة ينبغي أن تكون هناك وقفة تضامنية جادة وحازمة لنصرته ولرد اعتباره. - ما أجمل وما أحلى وما أروع عمالقة الفن عندنا في الكويت حفظهم الله، فما لا نرضاه لهم؛ لا نرضاه لغيرهم.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com
محليات - ثقافة
مثقفون بلا حدود
الفنان حينما تتقدم به السّن!
09:41 ص