لديّ قصص كثيرة مع الأقلام، فهم أصدقائي الذين لا يخونون. والأحبة الذين لايتغيرون أو يرحلون. الذين يصبرون عليّ ويحترمون مزاجي ويحتملون جنوني. أقلام الرصاص المتعددة وأقلام الألوان الخشبية والفحم للرسم. ثم أقلام الكتابة المتعددة. أحبار جافة. اسود وكحلي. وأيام عملي في الجامعة، الأخضر للملاحظات والأحمر للتصحيح. وهكذا تسير معي الأقلام مشاويري. وتقطع برفقتي مراحل عمري مستزيدة غير ناقصة. وكيف أنسى قلم والدي رحمه الله. أمسكه وألعب به كلما رفعني لأعلى وحملني إليه. قلم حبر جاف نصفه فضي والنصف الآخر أزرق سماوي. ولعل عشقي للأقلام. للكتابة والقراءة بدأ من هناك... من قامة وحضن أبي. وهناك القلم العزيز جدا الذي كان يلازم عرق كفي ونبض قلبي وتوالي أفكاري، كلما دخلت قاعة بمئات الوجوه المحدقة بي وارتبكت ثم نسيت ماذا أقول. قلم «دي بونت» الأسود الرشيق الجالس على عرشه في مفكرة جلدية بالاسم نفسه. لازمني في قاعات الدراسة وحفلات التوقيع وغرف التحقيق بالنيابة وقاعات المحاكم. ثم أعجب به أستاذ عزيز جدا فأهديته إياه. كان صعبا فراقه بقدر سعادتي انه استقر بكف وجيب أستاذ طالما أعجبت بفكره وارتوت روحي بحروف كتبه زمن غير بسيط. وظلت تعتصرني غصة كلما رأيت مكانه فارغا في جوف المفكرة اليتيمة المنطوية على سواد فقدها. تشتاقه كما اشتاق إليه.ثم اهدتني انسانة عزيزة قلم «اسكادا» ذهبي يعتز بلمعة لونه ويزهو بزخارفه. وافترقنا كما هو حال الحياة. وظل القلم يذكرني بضحكة عينيها وتميل عطر شعرها الطويل وعذوبة صوتها حين تغني لي والليل يسافر بنا في ظلمة المجهول. وحروف اسم أربعة كانت لفترة خبزي ومائي. وأتذكر كيف سخر من قلمي الجاف، الصديق الشاعر أحمد الشهاوي. وقال إن إكرام الكتابة يكون بقلم الحبر لا الجاف. كما أخبرني أحد الأصدقاء، كيف يجمع الأقلام الأنتيك رغم عدم استخدامها، فقط لأنه يقدر الفن والتفاصيل الجمالية فيها. فكل له طقوسه ومزايا أسراره مع رفيقه القلم. لكن حكاية القلم، سواء بالكتابة فيه أو بقراءة ما كتب به، لا تتوقف عند هذا. فللقلم مزايا علاجية ودوائية هائلة. فقد كتب قدامى الإغريق على مكتباتهم، أنه «مكان لشفاء الروح». كما استخدم سيغموند فرويد، الأدب خلال جلسات التحليل النفسي، كنمط من الاستشفاء. وكانت تستخدم القراءة كوسيلة للتخفيف عن المحاربين في الحروب وعن المساجين. فكل كتاب له منهج يستخدم كوسيلة للتطهير أو التداوي والعلاج، بإعادة التوازن للنفس الجريحة أو التطبيب من هزيمة أو خسارة أو تشتت واكتئاب. قال شكسبير في إحدى مسرحيانه: «تعالوا واختاروا ما تشاؤون من مكتبتي وتناسوا همومكم». وقال الفيلسوف إريك فروم بأهمية النظر في بعض الأعمال الأدبية العظيمة، مثل أعمال كافكا وبلزاك، لما فيها من تبصر عميق لا يوجد في أهم الجلسات النفسية الكبرى... كثيرون تخلصوا من أمراض نفسية مزمنة وخطيرة بالقراءة والكتابة. البعض شفي من هاجس الانتحار أو وسواس الكآبة الحادة وغيرها بالامساك بقلم والكتابة أو بفتح كتاب والقراءة. تخيلوا كم سيكون هذا مثمرا وعظيما لو درس لطلبة المدارس، ونشأوا وهم يؤمنون بقيمة الكتاب، وأهمية القراءة والكتابة، للتعبير عن النفس أو التنفيس عن همومها. فللقلم أهداف علاجية كبرى. القراءة تمدنا بنشوة مدهشة للعقل. والكتابة تؤكد فينا قيمة التفاعل والتعامل مع الذات والآخر والمجتمع... تضعنا على الطريق الصحيح لمشروعها الإنساني وكأنها تأخذنا من كفنا، وتقول: هيا إلى الإنسان. إلى الضوء. إلى الأمل. إضافة لحالة الاسترخاء والهدوء والتسامح الكبرى والصعود فوق صغائر الأمور وترويض الغرور والأنانية ورد الفعل الهائج. القلم مدرسة أخلاقية متكاملة. ومستشفى يزودنا بالصحة العقلية والشفاء النفسي والترف الجسماني التي نحتاجها للنجاة من واقع يحاول بكل جد وجهد إفسادنا وتغييرنا وانتزاعنا من صدقنا وتلويث كل نقاء وجمال متبقٍ فينا. انظر الآن وتفقد قلمك. أي نوع هو ومنذ متى معك. ستشعر بنبض كل كلمة كتبتها هنا.