لا تختلف - كثيراً - شخصية الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد وهو على المنصة محاضرا، وشخصيته التي تتلبسه مبدعا في سياق كتابته لعمل روائي أو قصصي... ففي كلتا الحالتين ستجده حكائيا من الطراز الأول تتلبسه الحكاية، ويحركه الوصف، وتنتظم أنفاسه مع ما يتطلبه السرد من استمرار وتوقف، وتأخذه الأماكن والأزمنة إلى أبعد ما يمكن توقعه من حقيقة وخيال وأحداث تجري في انتظام تارة وفوضى تارة أخرى، من أجل أن تتشكل حبات العقد في ملحمة تتوهج إبداعا وجمالا.هكذا ارتسمت الحكاية جلية في تلك المحاضرة الاستثنائية، التي ألقاها عبدالمجيد ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي الـ24، في متحف الفن الحديث، وتحدث فيها عن «رؤى وتجليات- المكان بين الرواية والحقيقة».وكان لمقدمة المحاضرة ومديرة الحوار فيها الدكتورة إمتنان الصمادي دور حيوي في الكشف عن جوانب جمالية عدة في منظومة المكان، تلك التي اتسمت بها أعمال عبدالمجيد الروائية، خصوصا تلك التي خص بها الإسكندرية بكل ما تحملها من ماض عريق وحاضر يحرك المشاعر في اتجاه الحزن على ما آلت إليه أحوال هذه المدينة الموغلة في القدم.وأراد عبدالمجيد أن يكون منصفا للمكان كي يتحدث عنه في أعماله الروائية مثل «المسافات»، و«الصياد واليمامة»، و«البلدة الأخرى»، و«هنا القاهرة»، بينما ارتكز معظم حديثه على وصف المكان في ثلاثية الإسكندرية، وعرج قليلا على كتابه «ما وراء الكتابة... تجربتي مع الإبداع»، الذي حصل به على جائزة الشيخ زايد في الأدب، متواصلا من خلال هذه الجائزة... مع جوائز أخرى حصل عليها وأهمها جائزة الدولة المصرية للتفوق في الآداب في العام 2004، وجائزة الدولة المصرية التقديرية في الآداب في العام 2007، وجائزة ساويرس في الرواية للكبار... وجائزة كتارا في الرواية، وغيرها.وفي حضور الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة محمد العسعوسي والروائي طالب الرفاعي جاءت إحداثيات المحاضرة، في تسلسل استهلته الصمادي بشكرها للقائمين على مهرجان القرين الثقافي الذي تؤكد فعالياته أن الثقافة العربية مازالت بخير، وأشارت إلى الحب الذي أولاه عبدالمجيد للإسكندرية... وهو حب حقيقي يحظى بالألفة والدفء، كما أنه - في الوقت نفسه - حب يلوي زراع الإسكندرية غضبا لأنها تغيرت، ما دعاه للهروب إلى القاهرة، ورغم ذلك ظلت الإسكندرية تلاحقه، مشيرة إلى أكثر ممن ثلاثين عملا أنجزها عبدالمجيد بين السيرة والمجموعات القصصية والأعمال الروائية، خصوصا ثلاثية الإسكندرية، التي شكلت حياة البشر الذين عاشوا وتعايشوا في هذه المدينة العريقة حضارة وتاريخا. وأشارت الصمادي إلى دراسة عبدالمجيد للفلسفة، وانعكاسها على كتاباته من خلال إخضاع شخوص رواياته للمعايير الفلسفية، مؤكدة أنه لم يكن عبدالمجيد راضيا عما كتبه في اصدر كتابه «ما وراء الكتابة»، وأن هناك الكثير من الدراسات والأطروحات الأكاديمية اتخذت من إبداعاته مادة لها.وأوضح عبدالمجيد - في محاضرته - أن موضوع المكان- بالنسبة له- مثير ومهم، خصوصا في أعماله الروائية، فيما تحدث عن أسباب دخوله كلية الآداب قسم فلسفة، من أجل محاولته لفهم الإنسان وما وراء الوجود، وهو ما كان له الأثر الكبير في كتاباته، ثم تحدث عن تطور الرواية عبر العصور، وما لحقها من تغيرات وتحولات، خصوصا في مسألة المكان، فنجيب محفوظ- مثلا- في ثلاثيته وصف المكان وصفا كلاسيكيا، مبينا أن المكان يوصف في الأدب حسب أحاسيس ومشاعر الكاتب نفسه. وتذكر عبدالمجيد إجابته عن سؤال طرح عليه خلال لقاء تلفزيوني عن شعوره إذا كان في الإسكندرية بشوارعها الداخلية وشعوره وهو واقف على البحر المتوسط، وكيف أنه أجاب بأن شعوره يختلف كثيرا في كلتا الحالتين، فحينما يقف على البحر المتوسط سينتابه شعور بالفخر وهو في مدينة تعطي الإنسان الثقة من خلال تاريخها وحضارتها، وأوضح أن لهجة أهل الإسكندرية مختلفة ومتأثرة بالجاليات الأجنبية التي كانت تعيش بينهم، كما أنها تتميز بالتعظيم، من خلال الحديث بصيغة الجمع أو ما يطلق عليها اللهجة الجماعية، وتذكر مشاهداته وهو طفل لشوارع وأحياء الإسكندرية التي سكنها الأرمن واليونانيون والأكراد واليهود وغيرهم، والمحلات الفرنسية والبريطانية، والأحياء الشعبية التي كانت تحاكي أحياء أوروبا في مظاهرها، كما تذكر مدارس الإسكندرية قديما والتي كانت تضم جماعة للشعر وأخرى للموسيقى وللرحلات وغيرها.وقال: «إحساسي بقوة المكان تجعلني أعتقد انه هو الذي يصنع شخصيات الرواية»، فيما أخذنا عبدالمجيد مع شريط ذكرياته ليقص علينا حكاية ذلك البدوي الذي كان يقطع مشيا على قدميه مسافات طويلة وكان يسلي نفسه بالغناء، وكيف أنه كان يجرب هيبة المكان وقسوته بنفسه بالمشي حافيا على الرمال تارة أو التعرض لفترات طويلة لأشعة الشمس أو التخفيف من ملابسه بغية تجريب برودة الطقس.وتطرق عبدالمجيد إلى الحرب العالمية الثانية، ومنطقة العلمين، والكثير من الذكريات التي تخص هذه الحقبة التاريخية من حياة العالم، وتحدث عن تسامح المجتمع السكندري وكيف أن الاحتفالات الدينية كانت محمية بالحب لدرجة أن الباعة الجائلين في احتفالات كنيسة ماري جرجس هم أنفسهم في الاحتفالات بمولد المرسي أبو العباس. وبكثير من الألم تحدث عن العشوائيات التي أصابت شوارع الإسكندرية، والتشوه الذي لحقها في كل أماكنها، حتى منازلها وعماراتها أصابتها الفوضى في البناء، لتصيب حتى«البلاجات»، وأفضى إلى الأمل الذي يتطلع إليه في أن يرى الإسكندرية كسابق عهدها جميلة.
محليات - ثقافة
تحدّث عن الإسكندرية التي أحبها بشغف ضمن فعاليات مهرجان «القرين»
إبراهيم عبدالمجيد: المكان هو صانع شخصيات الرواية
إبراهيم عبدالمجيد وامتنان الصمادي في المحاضرة
12:57 م