أولا: الصور الإيجابية: في عام 2009، انتقد أحد كتاب دولة عربية شقيقة برنامج شاعر المليون مدعيا أن هذه المنطقة- شبه الجزيرة العربية- لو غربلتها فلن تجد فيها من يستحق أن يطلق عليه لقب شاعر سوى عشرة شعراء، فرد عليه كاتب آخر من دولة عربية شقيقة معاتبا وقائلا له بالحرف الواحد «لقد كنت سخيا معهم»، بمعنى أن شبه الجزيرة العربية من مشرقها إلى مغربها ومن شمالها إلى جنوبها، لا يوجد فيها من يستحق أن يطلق عليه لقب شاعر- عجبا.وقد جهل الاثنان أن شبه الجزيرة العربية هي بوابة الشعر العربي، وهي جواز سفر لكل شاعر بالعربية (لغة ولهجة)؛ فلا يوجد شاعر عربي أو كاتب بالعربية ما لم يكن قد اطلع على الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام في بيئة شبه الجزيرة العربية، واطلع على الشعر الأموي في البيئة الشامية والشعر العباسي في سواد العراق، والشعر الأموي في البيئة الأندلسية، والشعر الفاطمي في حاضرة القاهرة، فكل شعراء هذه البيئات شعراء عرب جذورهم شبه الجزيرة العربية، وإذا كانوا من غير العرب فهم لم يتفوقوا شعرا إلا باللغة العربية. فأبو نواس لم يكن أبا نواس إلا باللغة العربية، وبشار بن برد لم يكن بشار بن برد إلا باللغة العربية. فقبائل اليوم هي امتداد لقبائل الأمس، وفحول الشعر النبطي اليوم هم أحفاد فحول الشعر في البيئات سالفة الذكر.على أن الشعر النبطي ينطبق عليه في تذوقه ما ينطبق على الشعر العربي الفصيح؛ فهناك صور جميلة وهناك صور غير مستساغة، وكلتاهما خاضع لذوق المتلقي، فمن الصور الجميلة والرائعة يقول أحد فحول الشعر النبطي: «أنا حتى فتات الخبز أقسمها معك نصين».في كل بلدان العالم لا يستغنى عن الخبز في الوجبات، وبعض الدول يطلقون عليه «عيش» من المعيشة لاستمرار الحياة، والخبز من النشويات وهو نشوة الحياة، هذه النشويات التي تتحول في الجسم إلى سكريات (جلكوز) وتمد الجسم بسعرات حرارية لاستمرار الطاقة، وهي دلالة على طول عشرة وإخلاص للحياة الزوجية، هذا المعنى العام لاستخدام الخبز في الصورة الشعرية، أما المعنى الخاص والدقيق والذي ينم عن إبداع الشاعر في تراكيب الصورة الشعرية فاستخدامه لفتات الخبز، ففتات الخبز يعني المساندة في أحلك الظروف وأصعبها التي قد يتعرض لها المرء، فتقاسم الحياة ليس في الخبز الكامل الذي يمثل الرفاهية، بل في فتاته الذي يجسد المعاناة والصبر على شظف الحياة والمعيشة الضنك، وقد لا يعلم الشاعر كل هذه المعلومات عن الخبز وفتاته، ولكن قريحته الشعرية ساقته إلى هذا التعبير وهذه البلاغة، وهذا ما يميز شاعرا عن آخر. يقول المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام: «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكما»، نجد هذه الحكمة في شعر فحل من فحول الشعر النبطي، وتعد أعلى مراتب الحكمة للساسة وأولي الأمر، وكانت الصورة الشائعة في الأمثال الشعبية هي خصوصية المفرد وتعميمها على الكل من مثل «من أجل عين تهون ألف عين»، أما في هذه الصورة فقد خصّ الشاعر الجمع وأضفى هذه الخصوصية على المفرد، الذي تجاوز عنه ليس احتراما له، بل احتراما قد يكون لأسرته أو لأحد أفراد أسرته، لقبيلته أو أحد أفراد قبيلته، لأعيان عائلته أو لأحد أعيان عائلته، حيث يقول: «وكم واحد لو ما حشمني حشمته... ما هو علشانه علشان غيره». ونرى الاعتداد بالنفس، وتنزيهها عن كل ناقصة وشائبة، بفخر رفيع المستوى، عالي الهمة، بقامة شمّـاء سامقة، تأبى الضيم والذل، لدى فحل من فحول الشعر النبطي، حيث قول: «عن دروب الغدر نزهنا نبانا... وعن دروب الذل ترفعنا الكرامة».ومن الفخر إلى العقلانية الإنسانية، والخوف على الآخر، والمحافظة على اللحمة الوطنية، وعدم التسرع في اتخاذ القرارات، ووضع مصلحة المجتمع فوق المصلحة الشخصية مهما حملت من الهموم والمآسي، وهو يعلم علم اليقين أن للشعر وقعا على النفوس، فالشعر يؤجج المشاعر، ويحرك الكوامن، ويلهب العواطف، وهذه العقلانية الإنسانية يجسدها فحل من فحول الشعر النبطي قائلا: «أخاف لتثور ديرة والسبب ذاتي... وأصير أنا ضحية ثورة الديرة».ومن العقلانية إلى الوصف والتصوير، صورة غاية في الروعة والجمال، بخيال خصب ملهم، وإن صح قولي فسوف أطلق على هذا الوصف بـ «هندسة شعرية» وصاحب هذا البيت هو «مهندس الشعر»، كيف لا وقد فصّـل الشاعر مقاسا للنقطة يبرز جمالها ورونقها كلؤلؤة وسط المحارة، وهذه الدقة في الوصف والتصوير أو قل هذا البعد في الرؤية التعبيرية منحته صورة بيانية مستحدثة، يقول هذا الفحل من شعراء النبط: «حجم ناحل خصرها في ردفها لجيت أحدد... حجم نقطة نون داخل نون ما تقبل الزياده».يخطئ من يزعم بأنه ليس للعرب ثقافة قبل الإسلام؛ فشعراء الجاهلية هم شعراء الإسلام من مثل حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير وكعب بن مالك وغيرهم كثير، وخطباء الجاهلية هم خطباء الإسلام مثل سهيل بن عمرو، وقادة الجاهلية في المعارك هم قادة الجيوش الإسلامية مثل خالد بن الوليد، بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال في محكم كتابه العزيز «لإيلاف قريش* إيلافهم رحلة الشتاء والصيف»، فكانت قريش محور تجارة العرب وغير العرب، مما جعل إبرهة الحبشي يغار منها ويطمع فيها، وفي قريش ناد للشعراء والخطباء، وفي قريش تجهز الجيوش للمعارك، وفي قريش تتلاقح ثقافات القبائل الأخرى، وعندما جاء الإسلام عزز مكانتها الثقافية والعلمية والاقتصادية إلى يومنا هذا، فلا يمكن لأي شخص كان أراد أن يدرس الأدب والشعر إلا أن يقرأ الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي، ليتسنى له تأسيس ثقافة يتكئ عليها في علومه المختارة، فعقليات شبه الجزيرة العربية عقليات جبارة متميزة في دراستها للعلوم، تناولوا القرآن الكريم فقها وتفسيرا وتأويلا وتشريعا وقياسا.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com
محليات - ثقافة
مثقفون بلا حدود
الشعر النبطي صور و صور (1 من 2)
09:01 ص