من وحي تراجيديا سالومي للشاعر الأيرلندي أوسكار وايلد 1900- 1954- وهي المسرحية التي يعتبرها أغلب النقاد درة ما كتب وايلد- اطلعت على نص مسرحي للقاص والروائي وليد الرجيب، بعنوان «رقصة الموت».كان الرجيب قد شاهد عرضا أوبراليا لـ سالومي في إحدى رحلاته، وتأثر بالنص، وكتب من وحيه مسرحية رغم أنه روائي وقاص، مقتفيا أثر أدباء كثر، كتبوا بأصناف أدبية متعددة، لأنهم وجدوا- حسب شعورهم- أن المسرح هو الطريقة الإيقاعية الأمثل هاهنا للتعبير؛ تولستوي نفسه، وهو أعظم الروائيين، وأكثرهم حماسا للواقعية الاجتماعية، وجد نفسه منغمسا في «قوة الظلام» كمسرحية لا كرواية.وبقراءة «رقصة الموت»، يجلو أنها خليقة بالاستكناه؛ إذا يحكي الرجيب بتناول واقعي اجتماعي قصة سالومي؛ الأميرة العبرانية، ابنة الملك هيرود/ هيرودس، والملكة هيروديا، والتي- حسب العهد المقدس الجديد- كانت قد طلبت من هيرود رأس يوحنا المعمدان (النبي يحي)، ونفذ هيرودس طلبها المجنون.وبحسب القص الإنجيلي، فإن هيرود أخذ قسرا من أخيه فيليبس زوجته هيروديا، ثم أراد ابنتهما سالومي، فاحتج المعمدان على زواج المحارم هذا، وكانت سالومي تحب المعمدان ولطالما صدها، ولأن هيرود منغمس بالرذائل، فقد رقصت سالومي له- وهو عمها وزوج والدتها- وقايضت جسدها برأس محبوبها انتقاما، وهي التي أعرضت عن كل من هاموا بجمالها، ولم تعشق سوى المعمدان.يصف الرجيب سالومي بأنها: «ليس الجمال وحده ما جذب إليها عشاقها لدرجة الفناء، بل الحرام والشر والشهوة المتدفقة والغواية التي تشبه غواية الشعر»، إن سالومي بطلة ذات فكر رأسمالي، وهي على علم اليقين، أن الجسد سيّد المكان والزمان والكلّ متجه إلى خدمته، في قوانين الرأسمالية.ولما كان ذلك، فإن «رقصة الموت»، تأتي في أجواء ذات دلالة واقعية اجتماعية واضحة؛ إذ تصدح عند الرجيب موسيقى فخمة في بلاط هيرود، الذي ينعم عليه قيصر الروم، «بلقب التابع الأمين، تقديراً لتطبيقه النظام الاقتصادي الروماني، ولإخماده انتفاضة عبيده في شركته الكبرى». إن الموضوع الأساسي في الأدب والفن بحسب حوار لم ينشر بين الرجيب وكاتب المقال يكمن في «الإنسان» وإن المسرح والأدب والفن «... يجب أن يتعاملوا مع هموم الإنسان أيا كان نوع المجتمع ونمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج فيه، أي سواء كان مجتمعاً رأسمالياً أم اشتراكياً أم اقطاعياً... الخ».يتم منح هيرود «... وكالات جديدة لمضاعفة أرباحه مما يخدم الإمبراطورية واقتصادها»، ولعل ما سبق يطرح سؤالا مهما، حول ما إذا كان المسرح هو فن لأجل الفن كما هو عند الرومانسي الفرنسي تيوفيل غوتيه 1872-1811، أم أنه فعل سياسي، كما هو في البعد الواقعي الاجتماعي لـ «رقصة الموت»؟ ويجيب الرجيب إن «... قضية هامة مثل الفن للفن أو الفن كدعاية سياسية، تمت مناقشتها كثيراً، بل استخدم الشكلانيون البرجوازيون ذلك، لكي يبرروا اهمالهم للمضمون أو حتى إلغائه على حساب ابراز الشكل وتعظيمه فقط»، كما أن «... سبب إهمال الشكلانيون للمضمون هو رغبتهم في تسطيح وعي القارئ أو المشاهد، وليس كما يجب أن يكون الأدب والفن لاعباً أساسياً في الواقع أو الحياة»، مضيفا أن «تناول الواقع بشكل فني واندماج المثقف أو الأديب بقضايا مجتمعه هو ما يطلق عليه أنتونيو غرامشي «المثقف العضوي»، فاستخدام الفن لمجرد الفن استخدم للتغطية على قلة أو غياب الموهبة عند الكاتب والفنان»، وفي الوقت عينه، فإن «استخدام الدعاية السياسية هي عيب كبير في الأدب، بل أن البرجوازية بصرفها نظر المتلقي عن قضاياه هي من وظف ذلك لأهدافها الرامية إلى فك ارتباط وعي الإنسان بواقعه».يقول الرجيب- في السياق عينه- على لسان شخصية يحي في النص: «...القصة والأسطورة تختلف في ذهن كل إنسان، كل ذهن يراها بلون وطعم وصوت مختلف»! ذاكرا أن «... انتماء الكاتب أو الفنان الفكري لا يهم، فالمهم هو ماذا تتناول أعماله وكيف يتناولها، أي المضمون والشكل، وهل ينتهج الواقعية الاجتماعية في التناول، بالطبع يجب أن يحرص الأديب أو الفنان أو المخرج على تطوير أداته الفنية ويعتني بالشكل المتطور، لكن لا يوصله إلى الغموض».يبدو الرجيب في «رقصة الموت»، وكأن لديه هاجس المزاوجة؛ أعني أنه قد أعمل النظر بالمسرح الأوروبي، ثم بلور- في الوقت نفسه- موقفا نقديا من واقعنا الراهن، وكأنه يود أن يقول: إن هذين الهدفين يتكاملان، ولهذا وذلك فإن شخصية سالومي، في «رقصة الموت» تلعبها ممثلة- وفق تقنية المسرحية داخل المسرحية- فتكون تارة سالومي التي تحب المعمدان، وتارة أخرى سلمى، الممثلة المسرحية التي تحب زميلها الذي يلعب شخصية المعمدان... إنها حالة من التطور اللامنطقي للأحداث وسط حياة عبثية تعيد إلى الأذهان – تقريبا- رحلة شخصيات الإيطالي لويجي بيرانديلو في مسرحيته الميتاثياترية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف».سلمى وليدة عصر العولمة، تعكس افتتان النساء- كسلعة رأسمالية- بآخر صيحات الموضة؛ إنه زمن مستحضرات التجميل، والهوس افتتانيا بالآخر، لدرجة أن سلمى ترى حتى في التمثيل فرصة لـ «أن أكون مشهورة.. نجمة.. فاشنيستا.. وألبس الماركات»؛ وهي لا تحب كفتاة «... كلمات مثل قدسي ومقدس، فلا شيء مقدس غير الشهوات في هذه الدنيا».ما التمثيل عند سلمى/ سالومي إلا «كنز أغرف منه الماركات»، لقد أصبح الاستهلاك- في نظر الكاتب- مورد الرزق لكبريات الشركات الرأسمالية، والعنصر الأساس في تركيبة المجتمعات الحديثة، بل وثقافة عالمية تجتمع حولها ألوان وأعراف الشباب وأطياف وأجناس الشابات، وما المصانع الرأسمالية، إلا شركات تستعبد آلاف العمال، لسلب جيوب الشباب... وما الفن والثقافة إلا تعميما لثقافة الاستهلاك و«الماركات عالميا»!تأتي «رقصة الموت» في هذه الفترة التي تسيطر عليها أنشطة مسرحية تعيد إلى الأذهان المسرح الشعبي وقوته الاحتفالية؛ بعد أن خبت شمس الاتجاهات التي كانت تتجاذب المسرح الكويتي من خلال اتجاهاته الفكرية العميقة؛ تأتي «رقصة الموت» محملة ببعض التجريب الذي من الممكن مشاهدته متبعثرا في صالة مسرحية صغيرة، حيث تشيع محاولات البحث المتشعبة، في محاولة ماركسية تمضي في طريق «التحريض» على الأفكار الرأسمالية.وقد لا يكون التقسيم السالف البيان حاسماً عند الرجيب، إذ إن التدخلات بين التيارات الفنية في هذه التجربة المسرحية، غير حاسمة والكلمة في هذه المسرحية عبارة عن احتفال جماعي، يجمع ما بين الشخصيات التاريخية والمعاصرة في سرد متداخل بين سالومي وهيرود وكنعان وبشير وسلمى... الخ.وهكذا إذن، فإن ما جمع بين سالومي الماضي، وصنوتها سلمى المعاصرة، هو مجموعة من الأفكار الأزلية، التي تتقاطع ماضويا وحاضرا، حيث يقول هيرود عن سالومي ما ينطبق على سلمى: «المال يأتي بالحب والولاء»، مؤكدا أن «... مصانعي وشركاتي تحتكر كل البضائع والأغذية والتعليم والطبابة»، وأنه بمجتمعه الاستهلاكي، القائم على إشباع الرغبات الإنسانية، قادر على أن ينال كل ما يريد، خصوصا من النساء، اللاتي يعتبرن أكثر الفئات إقبالا على ثقافة البذخ، وسحر الألوان المتطرفة.ويكمن في أعماق لغة المسرحية شعر مليء بالألوان، حيث نقرأ عن عيني سلمى، وعن القديسين والكهنة الذين يقعون في براثن نون النسوة، ويبرز في مساحات وزوايا المكان عالما متناغما، ولغة محفوفة بالإسقاط والتأويل والمقاربات؛ رغم أن أي مخرج للعمل، مطالب مسرحيا، بالمزيد من رؤى المقامرة والتحدي التجريبيين؛ فأنت حينما تود أن تعيد صياغة العالم، تحتاج إلى تجريب يعيد صياغة القوانين المعيارية على مستوى التجريب.من يعرف الرجيب، يدرك أنه ككاتب وكإنسان- له حاسة- لا تؤمن بأن التطور والتقدم، مرتبطان بالرفاه؛ لذا يبدو أن الرجيب حينما شاهد مسرحية سالومي لأوسكار وايلد، في زمن الاستهلاك المثير للكبت، وفي هذه الفترة التي تعد أسوأ فترات الحياة التي يعيشها العالم العربي، فقد حمل «رقصة الموت» كصيحة احتجاج ضد واقع السوق، الواعي واللاواعي على حد سواء، حيث صار الإنسان العربي مهموما باللحاق بركب المجتمعات المتقدمة، التي جعلت أهم ركائزها، نهب جيوبه تحت شعار: «البحث عن الجمال»!يحاول الرجيب من قناة المسرحية رفض التفاهة اليومية التي بدأت تتجمد في حضارات الاستهلاك، وهو إذ يفعل، فإنه يقدمه بسخرية تعج بالمرارة، رافضا أشكال اللغة المبتذلة التي يستعملها الاستهلاكيون، ورافضا حديثهم بلا تفكير وتفهم «اليومية» التي يعيشونها... وأن رواسب الإنسان الماركسي التي يحملها الرجيب في باطنه، تصرخ في أعماقه: «ماذا يحل بالأرض؟»!* أستاذ النقد والأدبaliali2222@hotmail.com
محليات - ثقافة
نحو ألق ثقافي
سالومي... وليد الرجيب
10:54 ص