تتقدّم القوات العراقية الى آخر معاقل «داعش» في صحراء الأنبار وبالتحديد نحو مدينة القائم لتضع الحجر الأخير فوق قبر تنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) الذي شغل العالم لسنوات واستنزف العراق وسورية.ومن الواضح أن التنظيم يعلم حق المعرفة أن لا مَخرج له في القائم وان هذه المدينة لن تقاوم كثيراً قبل ان تستعيدها قوات بغداد. ولهذا فقد سحب أكثر قادته وقواته الى صحراء الأنبار والبادية السورية حيث يستطيع الاختباء ضمن عشرات الآلاف من الكيلومترات شبه الخالية والتي حصّنها وأعدّ فيها المخابئ المناسبة، حسب تقدير المخابرات العسكرية العراقية.ومن المتوقع أن يعيد «داعش» تنظيم ما تبقى من قواته التي تقلّصت كثيراً بفضل الهزائم المتتالية التي مني بها في كل من العراق وسورية. وكذلك غادر العديد من المقاتلين الأجانب صفوفه وفَقَدَ القدرة على الاستقطاب وخسِر غزارة الموارد المادية التي كان يعتمد عليها (النفط وبيع الآثار المسروقة وفرض الضرائب). كما فَقَد «داعش» قدرته الاعلامية والدعائية في أعقاب سقوط الموصل ومن بعدها الرقة ولا سيما مدينة الميادين حيث احتفظ التنظيم بقاعدته الدعائية هناك وخلّف وراءه العديد من المعدّات المتطورة التي كان يستخدمها لنشر أعماله الحربية والقتالية وبثّ رسائله اليومية وطباعة جريدته ومجلاته التي غزت الداخل (اي الأراضي التي كان يسيطر عليها) والخارج ليُظهِر ما يريد إظهاره.ومن الطبيعي أن يبقى الإرهاب موجوداً على أراضي «بلاد الشام» و«بلاد ما بين النهرين» وبلاد أخرى في الشرق الأوسط وغرب افريقيا وآسيا كخلايا تعمل في الخفاء وتستطيع البقاء لمدة طويلة. ولذلك فإن أيّ عمل مستقبلي لـ «داعش» - صغيراً كان أم كبيراً - لا يعني عودته الى الساحة من جديد لأن الإرهاب لا يموت كلياً. إلا ان فقدان «الدولة» ومقوّماتها والمدن الأساسية التي تقام عليها - مثل بغداد ودمشق - يعني أن «داعش» فَقَدَ أيّ أملٍ بالعودة الى ما كان عليه العام 2014. لقد انتهى «داعش» وذهب الى مزبلة التاريخ.وكثرت التكهنات عن «التحديات التي سيواجهها رئيس وزراء العراق في مرحلة ما بعد داعش». إلا انها نظريات متشائمة تستند الى تمنيات المحللين وتأتي نتيجة عدم احتكاكهم او قُربهم من العراق بل لوجود هؤلاء على بُعد آلاف الكيلومترات ولمقاربتهم الوضع العراقي من زاوية واحدة.لقد أصبح «داعش» عدوّ الجميع وعلى رأس أعدائه السنّة والشيعة والطوائف الأخرى من دون تمييز. واختبر العراقيون حكم التنظيم الدامي، ولن يسمحوا له باحتلال الأرض مرة ثانية. أما إعادة الإعمار فهي تحدٍّ يواجه كل دولة دخلت في حرب دائمة. فدول أوروبا عانت لعشرات السنوات من التداعيات الاقتصادية جراء الحرب العالمية، ولبنان لم يتعافَ لغاية اليوم بعد مرور عشرات السنين على انتهاء الحرب الاهلية. وسورية والعراق واليمن سيعانون من الحرب وإعادة الإعمار. وكل هذا ليس بجديد: فالحرب تخلّف وراءها عائلات مشرَّدة وجرحى ودماراً في الممتلكات والبنية التحتية وهذا ما يَصعب التغلب عليه خلال سنوات قليلة حتى ولو تَضامَن العالم كلّه للمساعدة.أما في ما خص النفوذ السياسي، فقد أثبت العراق أنه خارج عن التبعية الإيرانية أو الاميركية أو أي تبعية أخرى. فقد استفاد العراق من إيران والمساعدات التي قدّمتْها له لاستعادة الأرض عندما تُرك لوحده خلال الأشهر الأولى من احتلال «داعش» الموصل في يونيو 2014. واستفاد من الدعم الأميركي الاستخباراتي والدعم الجوي والتزام واشنطن بصفقات السلاح الموقّعة مع بغداد.كما استفاد العراق من خلال علاقات حسن الجوار مع الكويت والمملكة العربية السعودية ومع سورية وجميع الدول القريبة والبعيدة بغض النظر عن مستوى العداء الحاصل بينهم والذي تريد بغداد النأي عنه.فقائد «فيلق القدس» الإيراني اللواء قاسم سليماني وموفد المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي يقدّم المساعدة للعراق كما يفعل بريت ماكغورك الموفد الرئاسي الأميركي وممثل الرئيس دونالد ترامب في الحرب على «داعش». فكلاهما يريدان القضاء على «داعش» ولا أحد منهما يتوقّع أن يتبنّى العراق سياسة البلدين. وبغداد تريد علاقات متينة مع سورية وخصوصاً لمحاربة الإرهاب الذي ضرب البلدين على الرغم من موقف أميركا العدائي من الرئيس السوري بشار الأسد. وذهب رئيس الوزراء حيدر العبادي الى الرياض لأنه يعلم أهمية السعودية الجارة في إعادة الإعمار. وهكذا يريد حيدر العبادي الابتعاد عن التجاذبات الشرق أوسطية والدولية لأنّ اهتمام العراق أصبح وطنياً بالدرجة الاولى ويستطيع لعب دور تَوافُقي إذا طُلب منه ذلك.ولن يكون العراق منصة لإيران أو لأميركا ولا ساحة حرب لهما على الرغم من تواجد أكثر من 5200 جندي وضابط أميركي ولتواجد أحزاب عراقية موالية لايران. نعم هناك أحزاب ساعدتْ القوى العسكرية والأمنية في إدارة «الحشد الشعبي»، وهذه الأحزاب موالية لإيران عقائدياً - كما هي الحال لعدد لا يُستهان به من الشيعة في العالم الاسلامي - ولكنها عراقية ولن تعمل ضد حكومة بغداد القوية لأنها جزء من النسيج الداخلي العراقي. إلا ان هذه الأحزاب والتنظيمات ستنفصل عن «الحشد الشعبي» إذا أرادتْ ذلك بعد الانتهاء من الحرب على «داعش».لقد بقي جزء كبير من العراقيين الكرد موالياً للولايات المتحدة في إقليم كردستان. وهناك موالون آخرون لبعض دول المنطقة في الشرق الأوسط في مناطق عراقية. إلا أن هذا لا يعني أن هؤلاء يستطيعون تنفيذ أجندتهم على باقي العراقيين. ففي دولةٍ أصبحت الديموقراطية طريقاً تسير عليها، من الطبيعي ان يكون هناك اختلافٌ وتَعدُّد في الآراء والتفضيل في السياسات الخارجية.ولن يكون هناك مبرّر - بعد الانتهاء من «داعش» - لأيّ فئة عراقية، شيعية او سنية او كردية او أزيدية او صابئة او أي ديانة اخرى ان تُبقي على السلاح والتنظيمات المسلّحة خارج إطار الدولة. فـ«الحشد الشعبي» - هو مثل جهاز مكافحة الإرهاب او الشرطة الاتحادية او الجيش - يعمل تحت قيادة رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة، وسيبقى يعمل ضمن الهيكلية العسكرية العراقية ولن يكون منفصلاً عن القيادة السياسية في البلاد.هناك واقعٌ جديد في العراق على الجميع استيعابه: لم تعد البروباغندا الاعلامية المعادية ذات جدوى لان بلاد الرافدين مصمّمة على إعلان الاستقلال يوم إنهاء احتلال «داعش» ومعه انهاء النفوذ الاجنبي - كل النفوذ - والاحتفاظ بأصدقاء وحلفاء وبناء الجسور للنهوض بعراق جديد.