لا يزال موضوع الاتفاقية الأمنية المزمع توقيعها بين الحكومة العراقية، والإدارة الأميركية تشهد تجاذبات عديدة، ولغطا واسعل على الصعيدين العراقي والأميركي، بل وحتى على الصعيد الإقليمي. فعلى الرغم من سلسلة المفاوضات الطويلة، والمباحثات السرية التي عقدها الطرفان الأميركي والعراقي بغية التوصل إلى صيغة جديدة تحدد مستقبل التواجد الأميركي في العراق، إلا أن تلك المفاوضات شهدت عراقيل عدة حالت دون الخروج بصيغة توافقية نهائية للتوقيع على الاتفاقية، خصوصاً بعد الاعتراضات العراقية الواسعة على جوهر الصيغة المقترحة من قبل الجانب الأميركي، كما صرح بذلك الناطق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ، مما حدا بالحكومة العراقية إلى أن تقدم تعديلات وصفها البعض بأنها أساسية على الصيغة الأميركية المقترحة.
/>و كما هو معروف، فإن تواجد القوات الأميركية في العراق قد حدده قرار مجلس الأمن «1790»، والذي أجاز بقاء القوات الأميركية في العراق حتى نهاية العام الحالي، وأنه في حال عدم التوصل إلى صيغة جديدة تحدد مستقبل التواجد الأميركي قبل نهاية العام الحالي، فإن التواجد الأميركي في العراق سيصبح غير قانوني! من هنا جاءت الحاجة الأميركية الملحة والسريعة لإيجاد اتفاقية جديدة تحدد مستقبل تواجدها في العراق، وقد سميت هذه الاتفاقية بـ «الاتفاقية الاستراتيجية الأمنية بعيدة المدى».
/>لكن ما تسرب عن هذه الاتفاقية عبر وسائل الإعلام المختلفة، أثار مخاوف وشكوك العديد من الأطراف، سواء العراقية أو الإقليمية، كونها ستنتقص من سيادة العراق، وستحدد مصيره ومستقبله لفترة طويلة من الزمن! أما عن أبرز البنود التي رشحت عن الاتفاقية حتى الآن فإنها تمثلت في النقاط الخمس التالية: السماح لواشنطن بقيادة العمليات العسكرية في العراق من دون إذن مسبق من الحكومة العراقية، إقامة أكثر من خمسين قاعدة عسكرية في مختلف مناطق ومحافظات العراق، السماح لواشنطن بالتحليق في المجال الجوي العراقي بمستويات منخفضة من دون إذن مسبق، تحصين القوات الأميركية، والمتعاونين معها من شركات، وأفراد من أي ملاحقة قانونية من قبل السلطات العراقية، اعتقال أي عراقي مشتبه به من قبل القوات الأميركية من دون الرجوع إلى الحكومة العراقية.
/>الكتل والأحزاب العراقية تباينت آراءها ومواقفها من الاتفاقية الأمنية، والمعروف هنا أن الشرط الأساسي لتنفيذ بنود هذه الاتفاقية يتمثل في موافقة المجلس النيابي العراقي عليها! بالنسبة إلى الأكراد، فإن الحزبين الكرديين الرئيسيين يعتبران الداعم الأساسي والأشد تأييداً لهذه الاتفاقية! حتى أن النائب فؤاد معصوم، أحد أبرز الأعضاء الأكراد، وصف الاتفاقية الأمنية بأنها ستحقق الكثير من المكاسب للعراقيين! السنة العرب منقسمون على أنفسهم، ففي حين نجد تأييدا مبطنا للاتفاقية الأمنية من قبل كتلة التوافق السنة بقيادة «الحزب الإسلامي»، نجد في المقابل معارضة شديدة من قبل «هيئة علماء المسلمين السنة» التي أصدرت فتوى تحرم فيها التوقيع على الاتفاقية! الحال كذلك بالنسبة للشيعة العرب، فعلى الرغم من التحفظ الذي أبداه «المجلس الإسلامي الأعلى» على بعض بنود الاتفاقية، إلا أنه في المحصلة النهائية يعتبر من المؤيدين للاتفاقية، إلى جانب «حزب الدعوة»! في حين نجد الرفض الشديد للاتفاقية من قبل التيار الصدري، الذي أطلق تظاهرة مليونية حاشدة الشهر الماضي للتنديد بالاتفاقية الأمنية، وهدد باللجوء مجدداً إلى الشارع لإسقاط الاتفاقية. حتى المرجعية الشيعية كان لها موقف قريب من موقف التيار الصدري. فالمرجع الشيعي الأعلى سماحة السيد علي السيستاني رفض بشكل قاطع أي مس من أي نوع بسيادة العراق. أما المرجع الديني السيد كاظم الحائري فقد أكد على حرمة التوقيع على الاتفاقية الأمنية وحذر، في فتوى أصدرها بهذا الصدد، من قيام أي جهة عراقية، أو أشخاص ممن وصفهم بأنهم «ذو علاقة بالموضوع»، من مساعدة الأميركيين على التوقيع على هذه الاتفاقية.
/>هذا التباين في الآراء والمواقف بين الفصائل، والكتل، والجماعات العراقية، تجاه الاتفاقية الأمنية، جعل واشنطن تضيق ذرعاً بالتجاذبات العراقية الداخلية! فأي تأخير في التوقيع على الاتفاقية سيسلب من واشنطن أي سند قانوني للبقاء في العراق مطلع العام الجديد، لذلك نجد الإدارة الأميركية قد غيرت من لهجتها وبدأت تطلق العديد من التصريحات التحذيرية (التي لا تخلو من تهديد) لحلفائها العراقيين على لسان كبار مسؤوليها، من أن عدم التوقيع على الاتفاقية سيعني انسحاب مبكر للقوات الأميركية من العراق وهو ما تخشاه بعض الفصائل العراقية الكبرى في الوقت الراهن على الأقل! فرئيس هيئة الأركان الأميركية الأدميرال مايكل مولن قال في تصريح سابق بأن: «الوقت بدأ ينفد أمامنا بشكل واضح وقد تترتب على ذلك عواقب وخيمة»! أما السفير الأميركي في بغداد رايان كروكر فقال: «من دون تفويض رسمي، فإن القوات الأميركية ستعود إلى قواعدها في يناير المقبل. ومن دون سلطة قانونية لن نتحرك، وهذا يعني أنه لن تكون هناك عمليات أمنية أو لوجستية، ولن يكون هناك تدريب ولا دعم للعراقيين على الحدود، لا شيء على الإطلاق»!
/>عموماً، تبدو الأيام القليلة المقبلة حبلى بالتطورات على صعيد موضوع إبرام الاتفاقية الأمنية مع دخول هذا الملف الشائك فصوله الأخيرة على ما يبدو! فالقوى السياسية العراقية منقسمة على نفسها تجاه هذا الموضوع بين مؤيد ورافض لها، وبين من يهدد باللجوء إلى الشارع! الإدارة الأميركية من جانبها وبعد أن ضاقت ذرعاً، بدأت في اتباع أسلوب التهديد والوعيد للضغط على السياسة العراقية للتوقيع على الاتفاقية من دون تعديلات تمس هذه الصيغة التي تصب أولاً وآخراً لصالحها! أما بعض الدول الإقليمية كسورية وإيران، فقد أعلنتا مسبقاً رفضهما لهذه الاتفاقية.
/>وما بين هذا الموقف وذاك يبقى الشعب العراقي صاحب الكلمة الفصل تجاه هذه الاتفاقية، فهو اليوم يقف مجدداً أمام لحظة تاريخية حاسمة! فإما القبول بصيغة جديدة تشرع الاحتلال الأميركي مقابل انتقاص السيادة العراقية، وإما رفض كل أشكال الوصاية وعدم السماح لأي مس بسيادة العراق من قبل المحتل الأميركي، فماذا تخبئ الأيام المقبلة للعراقيين؟
/>عمار تقي
/>كاتب كويتي
/>taqiammar@yahoo.com
/>