قالوا: قل ولا تقل. ورددنا: قل... وقل.لو بقي علماء لغتنا، وسدَنتها الساهرون على حمايتها وتطويرها عقوداً بل قروناً، كما حدث في الماضي، وهم يتجادلون ويتساجلون في أسرار عبقريتها، لبقيت تلك المساجلات، كما ستبقى، تحتدم وتتصارع، وتنقد وتنقض قولاً على قول؛ لأن اللغة روح الشعوب. بصمة الهوية، سرُّ التفكير والتأمل الإبداعي، وسر التطوّر الخلّاق الأبدي.لو لم يخترع الإنسان اللغة، و(يطورها، وهو الأهم) لبقي قرداً يتسلق الأشجار في الغابات من أجل الصراع على البقاء مع الكائنات البكماء. يعبّر بالإشارات والأصوات.هناك قبائل بشرية بدائية، وما تزال موجودة، في مجاهل الأرض، ابتدعت لغاتها الخاصة بها، لكنها لم تطورها؛ فبقيت لغة تخاطب للتفاهم، دون إنجاز فكري، ثقافي، وجداني، فني... يرقى إلى المستوى الذي أبدعته، وتبدعه الحضارات الكبرى عبر التاريخ إلى اليوم في العلوم والفنون والآداب...طبعاً هناك تخاطب وتفاهم بين كل الكائنات الحية، كلغة الطير والحيوان والحشرات... في البر والبحر، ومواسم الهجرة في أقاليم الفصول والليل والنهار... لكن هذه الكائنات لم (تطور) أصواتها، أو ألوانها، أو حركاتها... لتصبح (لغة) بالمفهوم العلمي.معجم هذه الكائنات محدود بحسب شروط البيئة، والتحديات المصيرية التي تواجهها. لكن اللغة البشرية، في أقاليم الاستقرار والازدهار الحضاري المتطور، ذات منشأ بدائي أكيد، لكنها لم تعترف بالجمود، والمعجم المحدود، وإلا بقيت لغة مثل أي لغة كائن حي، من طير أو حيوان، أو حشرات؛ لغة تخاطب غريزي، آلي جامدة وثابتة ثبات النوع أخطر تحدٍّ يواجه اللغات البشرية هو خطر الانغلاق على الذات، والتحجُّر، والتعصُّب الأعمى، والإيمان بأن قداسة اللغة الدينية أو التراثية... تمنع مسَّها بدعوى التطوير أو التجديد في ألفاظها، وأساليب تعبيرها. هؤلاء يضعون اللغة في تابوت أبدي من الجمود، فتتعفّن في تابوتها من الموت، مثل كثير من اللغات التي (كانت) حية! والمسكون بهموم لغتنا الجميلة العبقرية، تروعه الأصوات التي تهاجم كل من يحرص على تطويرها ببث نسغ حياة جديدة في أوصالها، وبالذات في الألفاظ والأساليب والمصطلحات... هي تشبه (نقيق الضفادع) كما سمّاها ميخائيل نُعَيمة. لكن إرادة التطور والتجديد، تبقى تصدح وتغرِّد في أدواحها معلنة أن التطور سرُّ البقاء. ويبقى الآخرون ينقُّون في مستنقعات الوحول والموت. وأُذكِّر دائماً بمقولة الفيلسوف الإغريقي هيراقليطِس عن جدلية الكون : إن القانون الوحيد الثابت في الكون هو... التغيُّر!وقد تناولت في أحاديث عديدة من (قل و... قل) بعض الظواهر اللغوية التي أراد لغويون قدماء ومعاصرون، سد منافذ التهوية النقية عن أهرامات لغتنا العظيمة بدافع الحرص والحب. لكن كما يقال: ومن الحب ما قتل! وبهذا تبقى لغتنا في مومياواتها ترتع فيها جراثيم العفن.الجدال في لغتنا لا ينتهي. وستبقى تتحدى عشاقها الغيارى عليها غيرةً قاتلة، كما تتحدّى أعداءها المتربصين بها .لغتنا هي الرابطة الوحيدة بيننا في ظل التشرذم، والتناحر، والتجزئة القائمة... والقادمة!* شاعر وناقد سوري