منذ أن تعرفت على كتابات المبدع المصري الكبير يحيى حقي، في فترة مبكرة من حياتي، وبالتحديد في بداية المرحلة الثانوية، وأنا مفتون بهذا الكاتب الذي أراه ينحت الكلمات نحتا من صخور وحجارة الواقع، كي يضعها في بناء روائي أو قصصي، قلما تجد له مثيلا في زمنه وفي هذا الزمن المعاصر، لأن نكهة يحيى حقي لها معان مختلفة تماما عن النكهات الأخرى، فكتابات يوسف إدريس- مثلا- تتميز بنكهة واقعية مأخوذة من الحياة في دلالات رمزية متنوعة، فيما تأخذك أعمال نجيب محفوظ في فرجة حياتية متصلة، من دون أن تتركك إلا وقد خضت التجربة بحذافيرها.بينما الأدب الذي أنتجه يحيى حقي، هو أدب هادئ ويحمله في ملامحه الروح الفلسفية، والحكمة التي كان يتصف بها يحيى حقي حتى في حياته العادية، وتعاملاته من الناس الذين يحيطون به. وفي حقيقة الأمر لم ألجأ سواء في قراءاتي أو كتاباتي أو أبحاثي الأكاديمية في عقد مقارنة بين كتاب أحبهم أو تأثرت بكتاباتهم، لأنني أرى في كتابات كل واحد منهم مذاقا خاصا مختلفا إلا أنه جميل ومعبر عما أريده. وبالتالي أصبح لدي مفاهيم وقناعات واضحة في كل كاتب أحبه، تجعلني أحافظ على قيمة ما يكتب مهما تغيرت الأحوال، ومهما قيل أن هذه الكتابات لا تلامس العصر الحالي، وأنا في هذه الجزئية أرى أن كتابات عمالقة وراود الأدب العربي، لا تزال تلامس العصر بروحه، مع اختلاف في المكان والزمان، وهذا ما جعلني أعشق بشيء من الخصوصية رواية «قنديل أم هاشم» للمبدع يحيى حقي، وهو عشق لازمني منذ القراءة الأولى للرواية، حتى الآن، أي أن المسألة تدخل في سنوات طويلة، ومع كل قراءة جديدة للرواية، أجد أنني أتيه عشقا بما تحتويه من عمق في التفكير ومقارنة عجيبة بين الأصالة والمعاصرة... الخرافة والعلم، وهي مقاربة نجح حقي في إبرازها بأسلوبه الأدبي الرشيق، الذي يقترب في بعضه من الشعر.والرواية تطرّق إليها النقاد كثيرا في تحليلاتهم وكتاباتهم، وكشفت هذه الرؤى النقدية عن جماليات اللغة في الرواية، والتكنيك الأدبي الذي اتبعه حقي في كتابتها، وانتصاره فيها للروح الإنسانية والبساطة على العلم والتطور، وفي الوقت نفسه كشف عن الوجه السيئ للجهل، وما يترتب عليه من عمى النفوس والمشاعر وحتى العمى الذي يصيب الخطوات وهي تسير على طرقات التطور. إن الرواية ازدحمت بالأفكار والتضاد والتقابل، كما أنها تدفقت بالحب والإنسانية، ورغم أن أوراقها قليلة إلا أنها تعبر بشكل واضح عن عالمنا الحالي الذي لا تزال تعيث فيه الخرافة فسادا، ولا تزال الأفكار الخلاقة متوترة لا تجد من يهيئ لها المناخ المناسب كي تنتشر، ومن ثم قد تقع في الجهل والخرافة، وهنا تكمن الخطورة.إنني أنصح كل الكتاب المبتدئين والشباب بقراءة رواية «قنديل أم هاشم ليحيى حقي، والاستفادة من مفرداتها الرشيقة، ومن حبكتها الروائية المتقنة، ومعالجتها الوافية لمسألة الصراع بين الجهل والعلم.* كاتب وأكاديمي في جامعة الكويتalsowaifan@yahoo.com