هم أبناء الطائفة «المُخْتفية» أو «المتخفّية» التي دفعتْ ثمن الخلط بين اليهودي والإسرائيلي والصهيوني، والذين «ضاعتْ» هويّتهم اللبنانية و«اختبأ» وجههم الديني تباعاً منذ أن «خبت» هويّة فلسطين مع نكبة 1948.هم أبناء الطائفة 18 في لبنان الذين كان عددهم يناهز 25 ألفاً قبل قيام دولة إسرائيل وحتى بعدها، ولم يبقَ منهم اليوم «على الورق» إلا نحو 5 آلاف ونيف، لا يعيش منهم بصورة دائمة في «بلاد الأرز» إلا نحو 200، إما تحوّل قسمٌ كبيرٌ منهم إلى المسيحية أو الإسلام، وإما اختاروا «حياة الظلّ» بعدما ذاق كثيرون قبلهم ذُلّ القمع والاضطهاد.هم أبناء الطائفة المعترَف بها في لبنان رسمياً (منذ العام 1936 إبان الانتداب الفرنسي) تحت اسم «الطائفة الإسرائيلية»، والذين يحاولون منذ أعوامٍ العودة إلى «الضوء» من بوابة كنيس ماغن ابراهام في وادي أبو جميل (وسط بيروت) الذي نفض عنه غبار الحرب ويَنتظر مراسم افتتاحه رسمياً التي تأجّلتْ مرات عدّة. وإذا كان الدمار الذي لحِق بهذا الكنيس الذي بني العام 1925 وكان من أجمل المعابد اليهودية في الشرق الأوسط، شكّل العنوان الأبرز لما أصاب هذه الطائفة، خصوصاً قبيل الحرب اللبنانية (اندلعت العام 1975) وخلالها، فإن عودة الحياة إليه وتحوُّله مجدداً مركزاً للعبادة يبقى الإشارة الفعلية، المعلَّقة حتى اليوم، إلى أن يهود لبنان عادوا إلى صلب النسيج اللبناني وأنهم سيخرجون من «مخابئهم».قبل أعوام قليلة، بلْسم كنيس ماغن ابراهام، الذي استعار هندسته من الفن العمراني إبان النهضة (هو من تصميم المهندس الشهير Bindo Manham)، «جراحه» بتبرعاتٍ غالبيتّها من الجالية اللبنانية اليهودية في الخارج، ولكنه ما زال يقبع على «رصيف الانتظار» في ما كان يُعرف بـ «وادي اليهود» الذي شكّل قبل بدء «جولات الهجرة» المتلاحقة «عاصمة» يهود لبنان، وفيه بنوا مؤسساتهم التجارية والدينية ومدارسهم وجمعياتهم الشهيرة.رئيس الطائفة اليهودية في لبنان اسحق أرازي، وكأن «في فمه ماء»، حين تحدّث مراراً عن انتهاء أعمال ترميم الكنيس التي اعتبرها «بمثابة فخر للمجتمع اليهودي ومحاولة للتأكيد على وجودهم في لبنان»، من دون أن يشير إلى أسباب التأخّر في افتتاحه، ولكن مع تأكيد «لو أردْنا أن ننشئ متحفاً، كنا سلّمناه للدولة. ما نريده هو أن يعود هذا الكنيس إلى طبيعته، أي أن يصبح مكاناً للعبادة مرّة أخرى».في وادي ابو جميل، وحده هذا الكنيس الذي يحتوي على قناطر نُقشتْ عليها نجمة داود وكتابات باللغة العبرية يبقى الشاهد على عدم اندثار الطائفة اليهودية في لبنان، هي التي تحوّلت بدايةً طائفةً «مخيفة» بعد 1948، مروراً بنكسة 1967 والاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1978، ثم الواسع النطاق في 1982، إلى طائفة خائفة لم تَجد لها مكاناً في لبنان ما بعد الحرب وفي المصالحات الوطنية التي أرسى ركائزها اتفاق الطائف، وكأنّها «تُلفظ» من الفسيفساء اللبنانية بعدما دفعت ثمن التاريخ والجغرافيا ومصطلحاتٍ دينية وقومية.«الراي» تقلّب على حلقاتٍ تاريخ الطائفة اليهودية في لبنان وحاضرها وفصول شبه «تَبخُّرها»، وتضيء على أبرز معالمها الدينية وخريطة انتشارها العقاري، كما تتحدّث إلى بعض أبنائها «المنسيين» الذين تجرأوا على الخروج «إلى الضوء»، وتستعيد أشهر الحكايا التي ارتبطت بها.في منتصف العام 2014، انتهى ترميم كنيس «ماغين أبراهام» في وسط بيروت، بتكلفة بلغت نحو مليون دولار أميركي تم جمعها من أثرياء لبنانيين يهود يعيشون في المكسيك والبرازيل وكندا وفرنسا، خلافاً لما قيل سابقاً (أي قبل بدء العمل بإعادة ترميمه العام 2008) من أن بعض الأثرياء اللبنانيين من طوائف أخرى ساهموا في التبرّع لبناء الكنيس كـ «مبادرة وطنية» تجاه يهود لبنان.وهذا ما أكده رئيس الأوقاف اليهودية في لبنان سامو بيهار في حديث إلى «الراي»، هو الذي نادراً ما يطلّ إعلامياً بسبب «عدم صدقية عدد كبير من الصحافيين في كتابة تقارير تخصّ الطائفة».ويشير إلى أنه قرر الخروج عن صمته عبر «الراي» بهدف وضع بعض النقاط على الحروف وتوضيحها لمن يهمّه الأمر. ولعل أبرز مسألة تطرّق إليها كانت بمثابة رسالة إلى جميع اللبنانيين بشكل خاص بأن اليهودية «هي ديانة فقط وليست قومية، وأنّ الصهيونية لا تمثّل ودولة إسرائيل الفكر الموسوي التوراتي». ويلفت إلى مسألة مهمة ودقيقة بعض الشيء، فيقول «إبان الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وقبلها في العام 1982 خلال اجتياح بيروت، لم يكن هناك يهودي وطني واحد يتعامل مع المخابرات الإسرائيلية، بل جميع العملاء كانوا من طوائف معروفة ومن أبناء القرى الجنوبية تحديداً».ويضيف: «لم يُلقَ القبض مثلاً على يهودي لبناني كان عميلاً. هؤلاء الذين بقوا متمسكين بأرض وطنهم، لو أرادوا لَهاجروا إلى الكيان الصهيوني منذ زمن ولم يبقوا هنا يعانون النظرات المريبة ويعيشون في الظلام خوفاً من معرفة ديانتهم، كله بسبب الخلط بين اليهودي والصهيوني والإسرائيلي».بالعودة إلى موضوع كنيس «ماغين أبراهام» الذي يُعتبر أهمّ وأول معبد يهودي في لبنان ( تم بناؤه العام 1925 في وادي أبو جميل)، فكان من المفترض أن تُفتح أبوابه العام 2014 أمام مَن بقي من كبار السن وعدد قليل من الشبان اليهود، لكن موعد التدشين تأجّل إلى تاريخ لم يُحدد بعد وربما... لن يحصل.وفي هذا السياق يؤكد «بيهار» أن السبب الرئيسي ليس كما يخيّل لبعض الكتّاب الذين يتحدثون عن مخاوف وهواجس أبناء الطائفة من أن يتمّ قتْلهم أو تفجير معبدهم من جماعات أصولية مُتطرفة، ولكن السبب الحقيقي يكمن في شركة «سوليدير» و«أمن بيت الوسط» (حيث دارة الرئيس سعد الحريري) إذ يمنع حراس البيت دخول أي كاميرا (حتى لو صحافة) أو أي فرد لا يحمل رخصة إلى المكان والمنطقة بشكل عام. وبما أن الكنيس هو في وسط المكان، بالتالي لا يحق لأي شخص الدخول سوى رئيسيْ الطائفة والأوقاف، ولذا حالياً سيبقى هذا المعبد ضمن إطار التراث التاريخي للطائفة الموجودة من بين 17 طائفة أخرى.وبالنسبة إلى صلوات الأعياد والمناسبات اليهودية (مثل الفصح الكبير وعيد الغفران في شهر سبتمبر) فهي قلّما تقام، بحسب بيهار، وفي حال أقيمت تكون عادة داخل منزل أحد الأثرياء من آل «مزراحي».وفي ما خصّ الصلاة على الأموات فعادة يتمّ غسل الميت وتكفينه لدى شيخ من المذهب السُني، وتتعاقد الطائفة مع «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» التي يتوّلى شيخ منها مراسم غسل الأموات وتوضيبهم وتكفينهم، كما هناك امرأة متخصصة بالنسبة للسيدات المتوفيات. وبعد ذلك، يُنقل الجثمان بواسطة سيارة سوداء عادية لا شعارات عليها، ليوارى في مدافن اليهود في منطقة «السوديكو».وبحسب بيهار، فإنه يُشرف شخصياً على المقبرة ويستأجر عدداً من العمال لتنظيفها وتنظيف المقابر وزرْع الأزهار.
فنون - فوانيس رمضان
ملف / يهود لبنان... حكاية الطائفة المُخْتفية (3 من 5)
رئيس الأوقاف اليهودية تحدّث إلى «الراي» أين يصلّي «يهود لبنان» اليوم... وكيف يُدفنون؟
05:48 ص