قليل الكلام، كثير الصمت، شارد الذهن، فاقد لشهية الطعام، ظهرت عليه علامات الإصابة بالقولون العصبي، ومؤشرات الإصابة بارتفاع ضغط الدم، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاماً. في عالم المال يقولون إن «المال عديل الروح»، فلا قيمة لإنسان تتبدد منه مدخراته، ويتلاشى عرق جبينه في غضون أسبوعين. بعد أن انتظر الشاب الذي ينظر إلى المستقبل بعين وإلى الثراء السريع بعين ثانية، فهو لا يلام حينما انتظر أسابيع كثيرة، وهو يرى السوق ينزف، وتتحطم أسعار الأسهم هبوطاً حتى أطل وزير المالية بتصريحه التلفزيوني: «هذا الوقت مناسب للشراء والدخول على الأسهم». فعقد العزم على تحويل مدخراته المالية كلها إلى أوراق مالية، مدخراته التي يحرسها بعينه التي لا تنام، ويصفصف دنانيره التي جناها بعرق جبينه طوال أعوام وظيفته الخمسة، وانتظر ساعة الصفر، وهي الساعة التي شجع وزير المال البقية الباقية من المواطنين، الذين احتفظوا بمدخراتهم بعيداً عن أعين لصوص المال في سوق المال، أعطى ضوءه الأخضر المخادع لدخول السوق. ومنذ ذلك اليوم الذي صرح فيه الوزير بأن الوقت مناسب للشراء تكبد هذا الشاب خسائر مالية تجاوزت السبعين في المئة من مدخراته، وهو الآن يحتفظ بهذه المدخرات التي تحولت إلى أوراق مالية فاقدة لثمنها الأصلي ليصبح أسير البيت في شبه عزلة عن محيطه الخارجي.
/>حاولت عابثاً أن أعرف سبب تلك المغامرة في وقت تنزف أسواق المال العالمية فأجاب بصوته المبحوح، الذي يكاد أن يختفي بسبب صمته المستمر وشروده المتواصل: «إذا كان وزير المالية وهو المؤتمن على كل ما له صلة بأسواق المال وخفايا هذا النزيف وأسبابه يشجع المواطنين للاستثمار، ويؤكد أنها فرصة مناسبة للشراء، فأسعار الأسهم مغرية للشراء، فبمن نثق إذا؟»
/>ويضيف هذا الشاب: «كنت متماسكاً طوال فترة تتهاوى فيها أسواق المال، وأراقب لحظات الدخول على شراء الأسهم، حتى أطل علينا وزير المال بتصريحه الصحافي... الوقت مناسب للشراء».
/>ويتابع فضفضته فيقول: «جميع مدخراتي في سوق المال تهاوت إلى ما دون القيمة الاسمية للسهم، فأصبحت وحداتها السعرية تقيَّم بالأفلاس، وأنصاف الأفلاس في مشهد لم أشاهده في أي سوق من أسواق المال العالمية. كنت حريصاً على قراءة البيانات المالية للشركات التي استثمرت فيها مدخراتي، فكانت بيانات معتمدة من البنك المركزي، ومعتمدة من سوق الكويت للأوراق المالية فهي شركات استثمارية ذات أرباح خيالية، ولكن الأزمة الحالية أزاحت الستار عن الحقيقة».
/>ويتابع: «بمن أثق، هل أثق بالبنك المركزي الذي اعتمد بيانات هذه الشركات، وتم الإعلان عنها في سوق الكويت للأوراق المالية، حتى نتفاجأ بانهيار كامل لقيمة الأسهم إلى ما دون القيمة الاسمية للسهم، أم نثق بوزير المال الذي أودى بمدخرات المواطنين في تصريحه اللامسؤول وهو يشجع المواطنين على دخول النفق، ويصفها بفرص مناسبة للدخول، أم نثق بالشركات التي أصبحت في ما بعد، بتصنيف الحكومة، شركات ورقية تبيع الوهم وتستثمر مدخرات المواطنين في مشاريع ومضاربات متهورة في أسواق المال العالمية والمحلية، لماذا نسمع هذا التصنيف الجديد الآن للشركات بأنها ورقية وفي السابق شركات استثمار ناجح وبمباركة حكومية، أعاد إلى الأذهان شركات بيض (الخفقع) وزميلاتها، أم نثق في الشركات التي تسترت بغطاء شرعي إسلامي واستولت على مدخرات المواطنين في اكتتابات خاصة، وهي مجردة عن كل وازع شرعي وأخلاقي في الحفاظ على مقدرات ومدخرات الناس الذين استأمنوهم تلك الأموال؟».
/>ويضيف بألم يعتصر قلبه الجريح بهذ النكبة: «بماذا نتسلى، نتسلى بوصف وزير التجارة، قائد فريق الإنقاذ للسوق، بأننا مغامرون متهورون، والحكومة لا تتحمل تبعات كل مغامر ضاعت مدخراته في سوق الورق، أم نتسلى بمجلس منتخب يتصارع على مصالح شخصية بعيداً عن تشكيل لجان طوارئ تسعف هذا الوضع المالي؟».
/>المستثمر الصغير دفع الثمن مبكراً بعد تجريده من تحويشة عمره في سوق عديم الشفافية تغطيه ضبابية معتمة، وسيدفع المواطن البسيط الثمن قريباً في ظل تهاوي أسعار البترول، والتحضير الحكومي لحزمة مالية مقبلة ليكتمل مشهد سلخ المواطن الكويتي.
/>عامر الفالح
/>free_q8i@hotmail.com
/>