شعرت برحيل الفنان القدير علي المفيدي بالحسرة والأسى والانكسار امام مهابة الموت، لكنني نظرت الى غيابه من زاوية اخرى تتجاوز العاطفة التي اكنها له والاعجاب بأعماله. نظرت الى خسارة الكويت انسانا آمن باختيار خط ما في حياته وسار عليه رغم التحفظات التي كانت ترى في الفن عملا غير مقبول اجتماعيا، وعشق مهنته مدركا ان النجاح - اي نجاح - مرتبط تحديدا بالتخصص وتنمية المواهب والقدرات، فطوَّر وتطور وانتشر في دروب الفن وكواليسه سابرا أغواره، مكتشفا مواكبا متقنا لمختلف الصنوف من اعداد واخراج وتمثيل وغيرها... وزرع، تحت مظلة التخصص والايمان به، في اسرته الصغيرة النهج نفسه فنشأ اولاده على حب الفن دراسة وتنفيذا واعدادا، وها هم يمارسون، كل في اطاره، عملا ناجحا تأسس على ما بناه الفقيد وواكب المتغيرات والحداثة.
من هذه الزاوية تحديدا قرأت رحيل علي المفيدي، وحاولت ان اعود بالذاكرة الى العائلات الكويتية التي تخصص اربابها في مجال معين مهني او حرفي او صناعي او تجاري او علمي او فني... واورثوا اولادهم هذا المجال الى درجة تسمية العائلة باسم الصنعة التي كان يمارسها الجد الاكبر. هذا التخصص تحديدا كان الحجر الاساس لبناء المجتمعات الرأسمالية والحرية الاقتصادية، حيث يتفاخر رب العائلة الصناعي او الحرفي او التجاري ببداياته المتواضعة وكفاحه الحقيقي من اجل ترجمة العبارة الاساسية التي قلبت المجتمعات الغربية: «قيمة العمل تتحدد بقيمة الجهد المبذول لإنجازه».
ولن يبذل المرء جهدا كبيرا ليلاحظ ان مفهوم العائلات التي تمارس تخصصا مهنيا وتورثه تراجع ما خلا الحقل التجاري ربما. ولن يبذل المرء ايضا جهدا كبيرا ليكتشف ان قيمة العمل لم تعد من قيمة الجهد المبذول به، لأن قيم الربح السريع المرتكزة على حركة المال والأوراق والأرقام العابرة للقارات هي التي سادت. ولن يبذل المرء اي جهد على الاطلاق ليعرف ان التخصص شبه انقرض من الكويت وان النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي ساهم في خنقه رويدا رويدا من خلال فتح طرق التوظيف والتطور والترقي لمن تتوافر لديهم معايير اخرى غير العلم والكفاءة والخبرة.
هل وصلنا الى البورصة؟ ربما، لكنها ليست موضع الفكرة الاساسية وان كانت من نتائجها الحتمية.
البلد يحتاج الى متخصصين... وفي مواقعهم. لا بد من وجود متخصصين قرب القيادة السياسية لمساعدتها في المشورة والفكرة والرأي والتخطيط ووضع الاستراتيجيات، ولا بد من وجود متخصصين لمواجهة الازمة المالية وانقاذ الاقتصاد من الانهيار، ولا بد من وجود متخصصين لوضع استراتيجيات طويلة المدى في كل مجالات التنمية تقي الكويت شر الأزمات وتضعها في مصاف الدول المتقدمة. ولا بد من وجود متخصصين في السياسة يعرفون متى وكيف ولماذا يتخذ القرار ومن اجل من؟
هل هناك متخصصون؟ بالطبع يوجد، فهذه الكويت التي كانت منارة المنطقة بفضل المبادرات الفردية الخلاقة التي اطلقها مبدعون في مختلف المجالات. وهذه الكويت التي خاض اهلها غمار مصاعب لا تحصى ولا تعد من اجل التنمية. وهذه الكويت التي سبقت الجميع بالحريات والديموقراطية وحقوق الانسان... لكن المتخصصين إما انهم رحلوا قرفا، وإما اعتزلوا يأسا، او وجهوا ابناءهم الى حقول اخرى غير التي زرعوها بعدما رأوا ان مستقبل الكويت لن يحتاجها.
وهؤلاء لا يلامون، فبعض متصدري المشهد النيابي وصلوا الى مقاعدهم بحكم الانتماء الى العائلة او الطائفة او القبيلة لا بحكم الخبرة والممارسة والقدرة على الرقابة والتشريع. وبعض متصدري المشهد الحكومي وصلوا الى مقاعدهم بالمعايير نفسها، وجميعنا يتذكر كيف وضعت خريطة بالقبائل والمناطق والانتماءات الطائفية والسياسية وجرى تسقيط اسماء الوزراء عليها. وبعض متصدري المشهد الاستشاري وصلوا الى مقاعدهم (الحساسة) بفضل «توصية» او «خدمات خاصة» سياسية واجتماعية او شراكة او مصلحة، فترى الطبيب يتحدث عن اسقاط القروض، والاكاديمي الجامعي عن التجارة، والاقتصادي عن الدوائر الانتخابية، والمثقف عن البورصة... الجميع متخصصون في كل شيء ويفتون في كل شيء ويورطون اصحاب القرار ثم يحمون انفسهم بصفاتهم الاستشارية.
والتخصص شبه غائب في كل المجالات. الاستاذ الجامعي يقرر له السياسي مشاريع تطوير الجامعة والتربية والتعليم. والطبيب يقرر له النائب مع الوزير (سواء اختلفا ام اتفقا) مصير المستشفى وصحتنا وصحة اولادنا. والرياضي يقرر له اصحاب المصالح الخاصة والحظوة والنفوذ شطبه من خريطة الرياضة العالمية... واللائحة تطول.
التخصص يغرب رويدا رويدا في بحر الكويت. قيمة العمل لم تعد بقيمة الجهد المبذول به... رحمة الله عليك يا علي المفيدي فقد كنت انسانا تخصص في الفن ومثل للناس، اما اليوم ، فالمسؤولون يمثلون على الناس والجميع يمثل على الجميع.

جاسم بودي