هناك فارق كبير بين الموسيقي المثقف والعازف العادي!هذا الفارق يعرفه جيداً الموسيقار الأسطوري العراقي نصير شمة، فهو يدرك - بما يحمله من الموهبة الموسيقية والثقافة الواسعة والرسالة السامية - أن «الفكر الموسيقي هو الذي يأتي قبل الآلة وبعدها»!هكذا يرى العالمي شمّة، في حواره هذا مع «الراي»، عامداً إلى الغوص بين «المقامات» الفنية تارةً، وآرائه السياسية تارة أخرى وأفكاره الاجتماعية تارةً ثالثة، مفصحاً عن امتلاكه ألبوماً جديداً بعنوان «لمَ لا»، يضم مجموعة جديدة من الموسيقى، إلى جانب رؤية جديدة أيضاً لطرح آلة العود للجيل الجديد يجمع الحداثة مع المحافظة على جوهره التاريخي العميق.شمّة نفى اعتزامه العزف على آلة أخرى غير العود، مرجعاً السبب إلى «أن العزف على آلة ما يتطلب تدريباً شاقاً ودراسة طويلة»، ومتطرقاً إلى حفله الأخير الذي أحياه في الكويت بالتعاون مع أكاديمة «لوياك»، معتبراً الأكاديمية صرحاً فنياً تقوده شخصية واسعة الثقافة بحجم فارعة السقاف، ومشيداً بالجمهور النخبوي الكويتي الذي حضر حفله واستمتع بكل نغمة موسيقية عُزفت حينها.شمة عرّج على ما وصفه بـ «تدهور الأغنية العربية»، منحياً باللوم على المنتجين وتدخلاتهم، ومشيراً إلى أن «الأغنية العراقية الحالية مرّت باهتزاز كبير جداً بسبب عدم الاستقرار السياسي»، إلى جانب العديد من القضايا من بينها العلاقة بين الحروب والفن، مؤكداً أن الأغنية معيار لرقي الشعوب... أما التفاصيل فنوردها في هذه السطور:• في البداية ما جديدك الموسيقي المقبل؟- لدي ألبوم جديد بعنوان «لمَ لا» يضم مجموعة جديدة من الموسيقى، إلى جانب رؤية جديدة أيضاً لطرح آلة العود للجيل الجديد، وهو ذو حداثة ومحافظ في الوقت ذاته على جوهره كآلة موسيقية لها عمقها التاريخي، وإن كانت تتجدد مع الزمن بالنسبة إلى جيل الشباب، الذي أصبح توجهه الاستماع إلى الموسيقى الغربية البحتة من دون أن يمتلك أي انتماء إلى الموسيقى العربية.• ما الذي تقصده بالطرح الجديد لآلة العود؟- كما ذكرت قبل قليل أن التوجّه الموسيقي للجيل الجديد بات غربياً، لذلك وعلى مدار عامين قمت بعمل تجارب لمعرفة السبب وراء ذلك، فأخضعت ابنتي ليل البالغة من العمر 13 عاماً مع مجموعة من صديقاتها، إذ قمت بإسماع ليل تلك الأعمال الجديدة كاملة واحداً تلو الآخر، وبدأت بسؤالها عمّا توحي لها به هذه الأعمال، حتى منحتني من إجاباتها بعض الأفكار ونضج الألبوم ليصبح عنوانه «لمَ لا»، وكان من المفترض أن يصدر في شهر ديسمبر الماضي في القاهرة، لكن طرحه تأجل إلى الفترة القريبة المقبلة خلال زيارتي التالية لمصر.• في ظلّ العولمة والتكنولوجيا التي نحيا بها، هل ما زلت تعتقد أن العود وحيداً بإمكانه إيصال أي رسالة للمستمع؟- أعتقد أن فكر الموسيقي الذي يقف وراء الآلة هو الذي يستطيع أن يوصل الرسالة، وليس الآلة التي يعزف عليها.• هل يعني ذلك أننا قد نراك يوماً ما تعزف على غير آلة العود لإيصال رسالتك ذاتها؟- غير ممكن هذا الأمر، لأن العزف على آلة معينة يحتاج إلى تدريب ودراسة طويلة وإن أراد الإبداع فيها يحتاج إلى سنوات طويلة، كذلك عازف العود لا يستطيع العزف على البيانو والعكس صحيح.• أخيراً أحييتَ حفلاً موسيقياً في الكويت... حدثنا عنه؟- سعدتُ كثيراً بأنني أحييت حفلاً موسيقياً في «مركز جابر الثقافي»، بالتعاون مع أكاديمية «لوياك» للفنون الأدائية «لابا»، هذا الصرح الفني الرائع الذي يمنح الأمل والسعادة في شباب المستقبل، والذي يعمل تحت قيادة إنسانة تمتلك فكراً نيّراً وثقافةً واسعة وعميقةً بحجم فارعة السقاف. حفلتي في تلك الليلة استمتعتُ بها كثيراً، وسعدتُ بالجمهور الكويتي النخبوي الذي حضر الحفل، واستمتع بكل نغمة موسيقية عزفت حينها.• هل تعتقد أن الموسيقى العربية اليوم ما زالت محافظة على رونقها وأصالتها؟- بعض الموسيقى العربية ضاعت بسبب تدخل المنتجين في شكل الأغنية مما أدى إلى تدهورها، وكذلك انصياع صناع الأغنية لما تطلبه شركات التسجيلات خصوصاً بعد رحيل الفنان عبدالحليم حافظ، فأصبحت الأغنية تتجه نحو السرعة، لكن اليوم وبعدما استهلكت كل تلك الأشكال هناك عودة إلى الطرب الحقيقي والروح في الكتابة الموسيقية والألحان والشعر، وعودة للأغنية الحقيقية التي تعيش.• وما تقييمك للأغنية العراقية تحديداً مقارنة بالزمن الذهبي لها؟- الأغنية العراقية مرّت باهتزاز كبير جداً بسبب عدم الاستقرار السياسي طوال السنوات الماضية، فالفن يحتاج إلى بيئة خصبة وهادئة كي يزدهر وينمو ويتطور، ومع الأسف الفن العراقي ما زال كله تعبئة للألم والحروب وغيرها من الأمور، وهذا كله لا يشكل فناً حقيقياً.• يقال إن الأغاني تعكس مدى ثقافة الشعوب... ما رأيك بذلك؟- هذا صحيح، فالأغنية هي عنوان يعكس رقي الشعوب، وفي الوقت نفسه تعمل كنوع من الفضح للمجتمع والمستوى الفكري له، إذ عندما تجد أغنية تسود الأسواق بشكل كبير، وهي أغنية هابطة في النص واللحن، حينها كن على يقين وثقة بأن الشعب دخل في مرحلة التجهيل، وبدأ يمشي في تلك المرحلة ويقبلها ويتعامل معها.• لمن تستمع اليوم من المطربين؟- بحكم عملي كموسيقي أستمع للكل من دون استثناء كي أعرف ما الذي يحصل من حولي حتى لو كان سماعي للشخص مرّة واحدة، لكن أن أعجب بمَن هذه مسألة أخرى.• هل أنت مع أو ضد برامج المسابقات الغنائية التي انتشرت على مختلف القنوات الفضائية؟- هذه البرامج أظهرت أصواتاً جميلة جداً من كل البلدان العربية كانت تحتاج إلى فرصة للظهور، وأيضاً بعض البرامج أحدثت تغييراً جذرياً في المجتمعات وفي النظرة للأغنية، إذ في السابق كنّا نجد الأب يرفض دخول أبنائه مجال الغناء، لكن من خلال تلك البرامج أصبحنا نشاهد أن هذا الأب هو الداعم الأول لموهبة أبنائه، وهذا التغيير الذي حصل في المجتمع العربي.• بالنسبة إليك... هل تسمح لابنتك - لو أرادت - بأن تصبح مغنية؟- أعلم ابنتي الصح والخطأ، ولا أفرض عليها رأيي الخاص، إذ إن دوري ينحصر في تعليمها كيفية الاختيار، وأن أوجهها وفق عقليتي وثقافتي، ومن ثمّ أترك لها كامل الحرية لانتقاء ما يناسبها سواء الدخول في المجال الفني والموسيقي أو غيره.• هل عانيتَ كثيراً خلال وجودك في العراق من أجل إيصال فنّك؟- عانيت أكثر بكثير مما يمكنك أن تتصوره، بل ما زلت أعاني إلى اليوم إلى درجة أنه في الفترة الماضية قد أُصدِر قرار بإهدار دمي، لكن أي عمل في الدنيا يحتاج إلى صبر وجهد ومثابرة وسهر، لأن الأشياء التي نريدها والأهداف التي نود تحقيقها لا تأتي بسهولة، وإن أردت أن تصبح فناناً عظيماً فعليك إذاً أن تبذل مجهوداً مضاعفاً، وبالتالي يجب أن تخسر أموراً من حياتك لقاءها، لكن ما يعوضها هو نجاحك في عملك.• هل الفن يمكن أن يصبح ذا قوة أكثر من السياسة؟- الفنانون المثقفون هم القادرون على التغيير، وفئة كبيرة من الناس تستمع لهم أكثر من ما تستمع للسياسيين، لذلك إن كانت وجهة نظر الفنانين مبنية على ثقافة عميقة فستكون مؤثرة ومهمة، والحياة مستمرة ولن يذكر فيها السياسي إلا إن خدم شعبه، لكن الفنان بالضرورة سيذكر، كما نتذكر اليوم المبدعين أمثال سيد درويش ومحمد القبنجي وعبدالحيم حافظ وفريد شوقي وأم كلثوم وبيتهوفن وموتزارت وشكسبير وغيرهم. بالمقابل، قد لا نعرف من هو الحاكم في حينها، وهذا يعطي مؤشراً إلى أن المفكر والمثقف هو الأهم.• من أجل الحفاظ على حياتك، هل من الممكن أن تغيّر معتقداتك؟- من المستحيل أن أقوم بهذ الأمر، فمن يريد تغيير معتقداته وآرائه كان فعل ذلك منذ زمن بعيد، لأن اليوم أصبح الوقت متأخراً. فاقتناعاتي تعتمد على وعيي الحقيقي، وبالتالي الوعي في تقدّم وليس في تراجع وتأخر.• هل ترى أن الربيع العربي سار في خطه السليم؟- هناك فرق ما بين الأحلام والواقع، فالأحلام أن الشعوب أرادت أن تغيّر وتحقق لنفسها معالم مستقبلها، لكن الواقع أنه حصل ذلك كله من دون وجود رؤية سياسية وبديل سياسي حقيقي، حتى عمّت هذه الفوضى العارمة في دولنا العربية. التغيير من وجهة نظري لا يمكن أن يحصل في ليلة وضحاها، بل على الأقل يحتاج إلى 15 عاماً من التخطيط الصحيح ليستقر في النهاية في مساره الملائم.• هل تؤيد أن يعلن الفنان رأيه السياسي على الملأ، أم تفضل أن يحتفظ به لنفسه؟- الكلام في السياسة دوماً «يزعّل» ويخلق أعداء ومعارضين، لكنني أؤيد أن يمتلك الفنان المثقف وجهة نظر واضحة، لأنه بعد مرور الزمن سيحظى باحترام الناس وسوف يصدقونه في كل ما يقول.• لماذا قلتَ «الفنان المثقف»؟- لأن هناك فناناً مثقفاً يمتلك فكراً ودوراً ريادياً، ورؤية تغييرية لرسم المستقبل، وهناك فنان آخر هو مجرّد «آلاتي» يعرف فقط كيفية العزف. فأنا على سبيل المثال كسفير لمنظمة «اليونيسكو» لدي مشروع بدأ منذ الثمانينات، ذلك توّج بأكثر من جائزة عالمية وأكثر من لقب، لأنني أمتلك رؤية للمجتمع، وعندما أتكلم عن أمر ما، لا أرويه بغرض الانتقاد فحسب بقدر ما أريد الإسهام في التغيير من دون حصولي على منصب أو كسب الناس. كل ما أريده هو مشاهدة بلدي مثل بقية دول العالم مستقراً آمناً، والشاطر يحصل على فرصته، وأن نلتزم جميعاً بالنظام بعيداً عن العنصرية.
فنون - مشاهير
حوار / «الأغنية انعكاس لرقي الشعوب أو فاضحة للمجتمع ومستواه الفكري»
نصير شمّة لـ «الراي»: الفنان المثقّف... أثقلُ وزناً من السياسي
07:40 م