يقول باشلار «البيت هو ركننا في العالم... كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى». وقال أيضاً «بغض النظر عن ذكرياتنا، فالبيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا».سنبحث في هذا النص، مدى تفاعل بعض الشعراء والشاعرات مع المكان وفضائه الدلالي وتأثرهم به وتأثيرهم عليه، وما يحمله من قيمة فنية وموضعية وأبعادا دلالية في نصوصهم. فلم يعد المكان يشغل الحيز والحجم فقط، بل أصبح متخيلاً إبداعياً منغمساً في ذات الشاعر - الشاعرة، ويتفاعل معه جدلياً وبشكل حلمي يستخلص منه رؤاه ويبث فيه وجدانه، فأصبح الشعر «مكانا» واسعاً يجد فيه الشعراء كل ما يلامس ذواتهم ويصافح وجدانهم ويتفاعل مع رؤاهم نفسياً وسيسولوجياً وأيديولوجياً. ويقول الشاعر بدر الحمد:للشعر: ظل، وأشجار، وعصافير صيدوالمدى شعر، يا شاعر: تخير مداكفأصبح «المدى» مكاناً للشعر يبحث فيه كل شاعر عن مكانه الروحي والنفسي والإبداعي، وكما يقول باشلار «الإنسان يعلم غريزيا أن المكان المرتبط بوحدته مكان خلاق».ومن الأماكن المتعارف عليها طوبوغرافيا، الأرض وتضاريسها، مثل الجبل والسهل والكهف. والبحر أعماقه وشواطئه والسماء ونجومها، والمدينة/‏‏‏القرية التي تتجزأ منها الأماكن الفرعية مثل البيت، الغرفة، الفناء، السجن، السوق، الشارع الطريق الدرب، القبر، المقهى، كذلك المكان الورقي الذي يسكب الشاعر حبره وبحره في حدود أسطره، وغيره من الأمكنة تلتصق بالذات.إذاً، المكان الشعري هو الذي يراه الشاعر بذاته ويتفاعل معه بخياله لا بواقعه الافتراضي، حسب الحالة الحسية والنفسية، حيث تتحقق الشعرية وتنطلق من جذورها الطبوغرافية نحو دلالات وإيماءات تتنصل من الواقع المعاش وتتخذه أرضية لها في نفس الوقت، فنجد أن المكان في تجربة الأمير بدر بن عبدالمحسن له مفهوم متخيل تتخطى دلالاته المكانية الواقعية إلى دلالة تحمل قيمة حسية وتجريدية، إذ انه مرتبط معه ذاتيا ووجدانيا...تاقف على أطراف الهدب وما شافتك عينيصافحتني ومدري يدكهي لمست عينيويقول البدر الهدب:إنتي عيونك هالمدى...بحر وطيور مهاجرهتركت في شطه صدى...صوتٍ تجرح آخرهفنجد المكان ينتقل من حيزه الواقعي إلى حيزه المتخيل عن طريق الانزياح في قوله «انتي عيونك هالمدى»، فالتفاعل الفلسفي العميق مع المكان جعل من النص مرجعية وجدانية تنبثق منها صور مشخصة، تحمل دلالات عميقة.أما الشاعر ماجد الشاوي فيتعامل مع المكان بمرجعية حسية وجدانية...هبت على شاطئ الحرمان نفحة حنانياليتها رايعت... لين افهم أسرارهاوقفت محتار كني داخل في رهانمجبور في سلعة ما بانت أسعارهاكما أن المكان أصبح مكونا من مكونات النص في تجربة الشاعر فهد دوحان، حينما استطاع إيجاد سياقات شعرية تنساق بموسيقى ذاته المتعثرة والمبعثرة زمانيا:افتش الدرب، اتبعثر فيه:يا هذا الحطام!!لا شعشعت بك شمسأو هز الهوى فيك الجريدأما المكان عند الشاعرة غريبة الدار يتخذ في هذا النص مكان سالبا، حيث أصبح رمزا للانقطاع الزمني وإشارة دلالية للانقطاع الوجداني أيضا، تعكس من خلاله جدلية الأنا والآخر كمحطة للرفض والقبول:يشوفني حلمه وانا اشوف به غيريشوفني فرحة واذيقه تعاسهحبه خيالي مثل عشق الأساطيروانا غرامي ثابت بأرض ياسهونجد الشاعر جمال الشقصي، يتعامل مع المكان من خلال سياق شعري مليء بالدلالات والرؤى عبر فلسفة ثقافية ووعي تمام في التعامل مع المرجعية المكانية الفاعلة:اللي غيابك موت ما صادف قبورواختار يبقى ف سدرة العمر حطابووظف الشاعر حمد السعيد، تقنية المكان/‏‏‏الضريح، وشخص (الشعر) ليثبت قيمة الرمز بدلالاته السالبة كمكان منغلق، وليجمع من خلاله شتات روحه:آه ياليت تجمع بعثرة مكتبيوالله اني نويت أبني لشعري ضريحأما المكان/‏‏‏الأرض كحيز جغرافي وكأداة لرسم الصورة الشعرية عند الشاعرة أغاريد السعودية، فيمثل مكانا وجدانيا منغلقا في البيت التالي، حيث جعلت من الأرض معادلا موضوعيا للتفريغ النفسي، وحيزا يضيقا ويكبر حسب الحالة الشعورية:وأعاف الكل لا من غاب عنيوروحي ما تطيق أحدٍ بديلهتضيق الأرض في عيني وتصغروأخفي حسرة الروح العليلةالشاعر فرج صباح، استطاع أن يوظف المكان /‏‏‏ الغدير، بصورة شعرية ذوقية، تتمدد جذورها وتنمو للأعلى حيث الانفتاح المكاني والنفسي والوجداني، الذي جعله منه شجرة يتفيأ به مع الآخر مزيدا من الاستمرارية والديمومة:ما سقاك الله عذر ولكنه سقامن غدير الطيب قلبي وظلله شجرهكما أن «سطوة المكان تتعدى في الواقع ما يبدو على السطح من تأثيرتها، وفعاليتها المباشرة، إلى أعماق التكوين النفسي» صبري حافظ. وهذا ما نراه في نص الشاعر سعد الحريص التالي:حبيبي كانت الفرقا بحر قلت السنين أخشابتجوّدت بطرفها قلت أبنسى العقل وجنونيحبيبي كنت رجمٍ في حشاي وصرت لي مرقابأغني بك حروفي وأنت وحروفي تغنّونيحبيبي لو بكيته طاحت الدنيا سما وترابحبيبي لو بكاني طاحت الدنيا من عيونيفنجد أن الأمكنة في الأبيات السابقة «بحر، رجم، مرقاب، سماء، تراب» استطاع الشاعر سعيد الحريص توظيفها في رؤية شعرية خيالية تجريدية من خلال المكان وتفاصيله ومحاصيله.أما الشاعر محمد النفيعي فيتعامل مع المكان بحسب فلسفته الخاصة ورؤيته الدقيقة للأشياء من حوله، يبني عليها ومنها أفكاره، ويشكل الصورة الشعرية من أبعاد ألوانها وأطياف عالمه الحلمي وما يحمله من قيمه حسية وتجريدية:لدور ما هي زرفتين وشبابيكالدور... صفحة نور ونجوم وأفلاكاحسها مثل الكفوف المشابيكمثل البحر والناس... حيتان وأسماكوقد استطاع الشاعر مناحي العوفي أن يعبر عن رؤيته للمكان كأداة حادة وعائق حسي دون آماله وأحلامه ورؤاه حيث يحمل قيمة مكانية سالبة:مدري ولا أدري وين ياقلب ممشايكل الدروب رماح وسط المحانيكما أن المدينة تلعب دورا بارزا في استثمار المكان كعنصر مؤثر في النص ومهيمنا على التفاصيل السردية الدقيقة، فنجد الشاعر نايف الرشدان وقد ثار على المدينة في أحد نصوصه باعتبارها معول هدم للقيم الاجتماعية، ووظف المكان فيه نوستالجيا، من خلال بحثه وحنينه إلى الماضي وما يحمله من ترابط اجتماعي.وش عطتنا المدينه كود قطعة ثيابوش نبي بالكساوي والمبادي عريالشاعرة عاصية الدمع، تجعل من الفضاء الطوبوغرافي فضاء شعريا وكمعادل موضوعي لجدلية الحضور والغياب من خلال تقنية المكان التي تحمل دلالة سالبة «وحوش الخلا، عارض السوق»...نذرٍ علي يا قلب وإن هزك الشوقلا أرميك لوحوش الخلا والذيابهدامك وفيت وباعك بعارض السوقصد وترفع لو يطوّل غيابهأما الشاعر ناصر السحيمي فاستطاع أن يوظف القيمة الضدية في المكان كإشارة للبعد والقرب والحضور والغياب من خلال المساحة المكانية بضيقها واتساعها حسيا «ميدان حبك /‏‏‏ الجفاء قبره».القلب ميادان حبك والجفاء قبرهوالبعد عنك مماتي لو تصدينيويطل علينا الشاعر سعيد موسى عبر تجليات المكان /‏‏‏ الوطن كبؤرة لتفريغ شحنته الانفعالية والرمزية وما يحمله من صراع داخلي هيمن على حدود وطنه الخارجي بمرجعية مكانية متأججة:ما يَشبِه الخَوف غَير البَرد وَالظلْمَالقَيِط هَذا الحْزن في مَوطن أزهَارِيواستثمر الشاعر إبراهيم السمحان، تقنية المكان كبؤرة تنطلق منها رؤاه وتنبثق من خلاها رمزيته لعالمه الداخلي الذي يعلق عليه لحنه وشجنه في حضور فلسفي واع وقدرة إبداعية متفردة:وقل عن دوار المنضده... عن شهقة الدفتريوم التقيتك وافترش طلح المسافه قاف