علينا أن نفرق بين «الشعر» و«الشاعر»؛ ففي رأيي الخاص أن الشعر هو الشعر العربي الموزون والمقفى صاحب الروي الثابت في القصيدة الواحدة، وأعني دوائر الخليل العروضية والبحور (16)؛ فحينما يقال «الشعر ديوان العرب» هي إشارة إلى الشعر العربي في العصر الجاهلي وصدر الإسلام والأموي وبدايات العصر العباسي، ومن حذا حذوه إلى يومنا هذا وتعلم وأتقن قواعده، يقول الحق تبارك وتعالى:«وما علمناه الشعر وما ينبغي له...» يس: 69.أما الشاعر فذكره الله سبحانه وتعالى في أربعة مواضع هي (الأنبياء: 5، الصافات: 36، الطور: 30، الحاقة 41)، ما يدل على أن هناك فرقا واضحا وكبيرا بين الشعر وبين الشاعر؛ فالشاعر فهو صاحب الإحساسات المرهفة، والعواطف المتدفقة الجياشة، يتأثر بالأحداث، ويتفاعل معها، ولكنه قد لا يملك القدرة على نظم قصيدة عمودية لبحر واحد بقافية واحدة وبروي واحد، قد تكون بديهته المتعلمة غير حاضرة، ولكن إحساساته وعواطفه حاضرة، لذا هو يعبر عما يجول في خاطره تحت مسمى نثريات شعرية أو شعورية، وما يتلفظ به إنما هو شعور أو هي مشاعر. وهذا لا يغض من مكانة المرء، ولا يقلل من شأن شاعريته.إن وجدانيات الشاعر ودفء إحساساته إنما هي ملكة مثلها مثل الصوت الجميل، فقد يتعلم المرء قواعد وفن التجويد بيد أنه لا يملك صوتا جميلا، فوجود الصوت الجميل مصقولا بقواعد فن التجويد يحقق التميز، كذلك حال الشاعر هي قدرة ربانية وحالة طارئة وليدة لحظة ما، لا يملك السيطرة عليها، ولا يملك القدرة على ضبطها أو كبح جماحها، هذه الوجدانيات الفياضة إذا تحصن صاحبها بمخزون من الألفاظ العربية تحقق له التميز على غيره، فالموسيقى الخارجية ممثلة بالوزن والقافية والروي مطلب أساسي لكي نطلق عليه شعرا، وما يميز شاعر عن آخر هي الموسيقى الداخلية ( مناسبة الألفاظ للمعاني )، قوة التراكيب والصور الشعرية، الإحساسات والوجدانيات، القدرة على التوليد، المهارة على التضمين والتحوير والاقتباس، لاحظ أبا نواس يقتبس بيتين اثنين من الشعر ويضمنهما قصيدته «جئناك نبتاع قهوة» في موضع منسجم مع معنى القصيدة بذات البحر والوزن والقافية والروي، هذه القصيدة تتكون من ( 22 ) بيتا؛ جاء البيتان المقتبسان للشاعر ذي الرمة (17 و 18) حيث يقول أبو نواس ببيت قبلهما:- وما زال يسقينا، ويشرب دائبا... إلى أن تغنى حين مالت به سُـكرا:ثم ضمن بيتي ذي الرمة حيث يقول:- «فما ظبية ترعى مساقط روضة... كسا الواكف الغادي لها ورقا خضرا- بأحسن منه منظرا زان مخبرا،.... بل الظبي منه شابه الجيد والنحرا»وبعد هذا التضمين يعود أبو نواس ليكمل قصيدته قائلا:- فيا حسنه لحنا بدا من لسانه... ويا حسنه لحظا! ويا حسنه ثغراهذه مهارة خارقة- ولاسيما- إذا كانت مرتجلة.في كثير من المؤتمرات التي شاركنا فيها وجدنا من يتهجم على شعر وشعراء التفعيلة والشعر الحر وقصيدة النثر، ويطول أصحابها شيء من السب والشتم والاستهزاء والتهكم بملكاتهم، وقرائحهم، تحت ذريعة الشعر العربي كالخيمة التي تنتصب على عمود، فهؤلاء كسروا العمود وهدوا الخيمة، وأفسدوا المكان.وعلى ذلك أضرب مثالين اثنين:المثال الأول: لدينا خيمة بعمودها ذات نمارق وزرابي ومضايف وأمامها ناقة وجمل وحصان وفرس، ويجلس فيها فحول الشعراء العرب كما صنفهم ابن سلامة في طبقاته، منذ العصر الجاهلي.المثال الآخر: بالقرب من هذه الخيمة توجد «فيلا» من ثلاثة أدوار الدور الأول يمثل الشعر الحر، والثاني شعر التفعيلة والثالث يمثل قصيدة النثر، وأمامها سيارة فارهة أنيقة فخمة، ويجلس فيها أمل دنقل، بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، صلاح عبد الصبور، نزار قباني، محمود درويش... سعاد الصباح... إلى آخره من شعراء الشعر الحر وشعر التفعيلة أو قصيدة النثر.فمن أراد أن يستلهم من الماضي وينهل منه فله ذلك، ومن أراد أن يجدد ويطور ويبتكر شريطة عدم المساس بالماضي فله ذلك، فهذه ساحة وهذه ساحة وكلتا الساحتين ثراء للغة العربية، ولطالما اللغة متطورة، فمن الطبيعي تطور فنونها.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com
محليات - ثقافة
مثقفون بلا حدود
ما بين الشعر والشاعر...
د. فهد سالم الراشد
09:02 ص