لعله مرّ من ذاك الطريق النيسمي الآخر الذي ربط سطح الأرض بسفح الجبل، لم يعد لي متسع من الوقت للذهاب خلف هذا الكوخ الذي بناه كاكا دلير قبل سنوات مضت، كان حبه لهذا المكان كبيرا إذ بين أجوائه استشهد أبوه المقاتل كاكا مصطفى عندما كان يدافع عن قضيته التي ولدت في دواخله حبه للجبل، المنظر في غاية الروعة وبالأخص حينما تشرق الشمس في بداية كل يوم.كنت أراقب كاكا دلير وهو يتأمل صورة الطبيعة الرائعة ترسم في الذاكرة حالة الخلود، وهي الصورة نفسها التي خلدت في مخيلتي ان أبقى وقتا طويلا اتأمل وأعيش لحظات التمعن والخيال لكل جزء من هذه الطبيعة الخلابة، لا أحدا يصدق أنني يوميا أتسلق الجبل كي أصل الى كوخ كاكا دلير لأتمتع بأنقى وأصفى المناظر الجميلة.حبي لهذا المكان خلق مني أنسانا أحب التكرار والاستمرارية مع حدث عشقت روحي ان تعيشه يوميا وحتى ولو بمعنى الروتين الممل، مَن مِن أهل القرية لا يحب كاكا دلير فهو علما يرفرف عند سفح الجبل، صغارنا تغنوا بذكرى وقصص البطولة التي سطرها هذا الرجل الذي تحول الى صورة عملاق كبير، كل الذي جلس معه عشقه حد الجنون والذي سمع ببطولاته أحب ان يراه وإنا أولهم أتسلق هذا الجبل كي أصل الى مبتغاي، لأستريح بعضا من الوقت ولأقلب هذا الكوم من الأخشاب التي جمعها أولاد القرية وساهم الآخرون بإيصالها لهذا الرجل الذي ملأ الله حبا في قلوب الناس اليه.أين سأجلس لأنزوي الى جذع الشجرة وأستريح من العناء الطويل؟ استقر جسدي على المقعد الخشبي الذي صنع من جذوع الأشجار وقلت - يا رب الحمد لك، لقد منحتني مكانا استرح عليه. عيني بنظراتها تفتش عن شيء ما، عن حاجة افتقدت تواجدها اليومي انها الماعزة التي أحببت رؤيتها ألان فقد تشاركني وحدتي ولحظات الانتظار، خرجت من فمي أحرف كررتها على الدوام.هذه المرة لن تكن بجواري بل أيقنت انها قد تركت المكان كصاحب الكوخ، للحظات شعرت إنني مرهق متعب كون الانتظار مرارته صعبة جدا، في ما مضى من الأيام كنت اقضي الوقت بالتطلع لأجواء المكان وما تبقى من وقت اليوم اقضيه مع صاحبي الذي انتظره، كانت أنفاسي تتصاعد واشعر بشيء من الجوع، إذا علي ان ادخل الكوخ وارى ما فيه لعلي ساجد ما يسد رمقي كوني لم افطر جيدا، إني أرى ظلمة تخيم في الداخل فقد نسي كاكا دلير ان يفتح النوافذ، حتى يتغير هواؤه الداخلي، رائحة شيئا ما أشمها حتى بعثت في نفسي روح الاشمئزاز، بدأت يدي تقلب الأشياء المعلقة على الحائط، أكياس عديدة، مررت بأطراف أصابعي عليها لأدخل يدي في إحداهن لتخرج الكلمات من فمي - انه الجوز والخبز. كنت ابتلع اللقمة بعجل وكدت اختنق لولا إني ارتشفت شيئا من الماء على النهاية قلت:- الحمد لله... عدت لإدراجي خارجا بعدما استسلمت الشمس وانتصبت عالية في السماء قد ارتفعت حتى درجاتها، لم يفصلني عن الظهيرة إلا البقايا وقت زمني وشاركتني وسوسة الشيطان لتدعني اقل:- لربما سقط من الجبل كونه لم يعد كما كان في السابق.واكبت صلاتي وأديت حتى أكثر فروضها الى ان وجدت نفسي ممددا على الفراش اقلب في رأسي حكايات متنوعة اغلبها بينت لي حب هذا الرجل لهذا الكوخ ولهذا الجبل، كنت ابتسم تارة واسكت تارة أخرى ليفصلني شيء من الخوف بعدما خيمت الظلمة على كل الأشياء، نور المصباح النفطي لم يعد كافيا داخل الكوخ وأصوات مختلفة تنتشر في أجوائه لا أحدا يفهمها فقد سمعتها تكرارا ومرارا وسألت الرجل عندما كان موجودا.- كاكا دلير ما هذه الأصوات...إجابته أقلقتني وشغلتني حتى بزوغ الفجر:- لا تسألني كثيرا... انها الأصوات الصادرة من المقبرة التي بنيت على سفح الجبل...حقا خفت وخوفي ألان أكثر حتى رددت مع نفسي:- كان الواجب ان انزل الى القرية...فكرت ان اجمع قواي وأتحرك الى مكان النوم، وان ارتب أفكاري المشتتة وأتحلى بالصبر وان اقتل مخاوفي بالتكرار بالصلاة على محمد وآل محمد... علا صوتي من دون إرادتي:- اللهم صلي على محمد وآل محمد...في السابق عندما علا صوتي أجد «ماعزة» الرجل تقف ناظرة في وجهي كأنها تردد معي أو بعدي ما سمعته حتى يصيح عليها بصوته:- اذهبي لمكانك...تنسحب بخطى بطيئة تاركة ورائها حكايات يقصها لي حتى بزوغ الفجر، وبين وهلة وأخرى أجد راسي يترنح بالعطش الى نومتي حتى أتحسس منه بأنه فهمني ليقول لي:- هيا انهض الى فراشك للنوم...كان كل شيء جميل يبقى في الذاكرة، اتجهت براسي الى الجدار وإذا ببندقية الكوخ معلقة في الزاوية القريبة من الباب نهضت صوبها واحتضنتها بالحال وأخفيتها تحت الغطاء قائلا:- أنت أماني في هذه الليلة...كنت أخشى على نفسي منها فقد ألقيت كامل جسدي فوقها، فجر جديد ظهر وعلت الشمس كثيرا بينما أخذت امسح دموعي عند أسفل الجبل لما وجدت أهل القرية جميعهم عند جنازة كاكا دلير الذي ودع الحياة وكانت نزلته من الجبل هي الأخيرة بينما بندقيته التي علا أصداء طلقاتها إكراماً له وأنا أردد وأقول:- ستبقى معي للأبد... ولوحة كوخه خالدة في ذاكرتي...!
محليات - ثقافة
قصة قصيرة / الكوخ
هادي عباس حسين
09:57 ص