تبدأ اليوم محادثات أستانة في كازاخستان حول اتفاق وقف النار في سورية بين أطراف في المعارضة والحكومة السورية برعاية الأمم المتحدة وضمانة تركيا وروسيا وإيران.وستتمحور المحادثات حول الأوضاع العسكرية فقط وانتشار المسلّحين المصنَّفين غير إرهابيين على الخريطة السورية وإيجاد خطوط تماس ثابتة في المرحلة الأولى كي يصار لاحقاً إلى مباحثات سياسية تُعقد في أروقة الأمم المتحدة إذا صمد وقف النار.إلا أن عدم حضور معظم الأطراف المتحاربة يعني العودة الى لغة الحديد والنار لآلافٍ من المتحاربين على أرض بلاد الشام.وأعلنت الولايات المتحدة برئيسها الجديد دونالد ترامب أنها لن ترسل موفداً الى المحادثات بل ستطلب من سفيرها في كازاخستان الحضور لتلبي دعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي امتنع عن دعوة الرئيس باراك أوباما قبل أيام من انتهاء ولايته للاختلاف الواضح في سياسة الدولتين العظمييْن حول الملف السوري.إلا أن الاجتماع الذي يبدأ اليوم وينتهي قبل نهاية الثلاثاء، يضم فقط ضباطاً وخبراء عسكريين من الأطراف كلها، لتحديد نقاط ثابتة لخطوط التماس ومواقع المسلّحين المشاركين في مفاوضات وقف النار، ما سيعزل أولئك الذين رفضوا المشاركة، وعلى رأسهم التنظيم الأهمّ والأكثر عدداً أي «أحرار الشام» الذي فضّل الوقوف الى جانب تنظيم «القاعدة» (النصرة - جبهة فتح الشام) وعدم الذهاب إلى أستانة، رغم أن هذا التنظيم لم ينعِ الاجتماع ولم يأخذ موقفاً سلبياً من المجموعات المعارِضة المشارِكة فيه.وفي قراءة لخيار «أحرار الشام» في ما خص مباحثات أستانة أنه لو شارك هذا التنظيم في المؤتمر وأشار الى مواقعه العسكرية، فهذا يعني أن مواقع «القاعدة» ستصبح واضحة أمام الطيران الروسي والسوري ما سيُعتبر بمثابة تواطؤ من «الأحرار» على «القاعدة»، وسيؤدي ذلك حتماً الى صدام عسكري (لا بد منه عاجلاً أم آجلاً)، أي، ستُصعق كل القوى المعارضة لحكومة دمشق، وهذا ما لا تريده تركيا الضامِنة عن المعارضة والجهاديين في الوقت الراهن، على رغم أن عدم ذهاب «أحرار الشام» يمثل صفعة لأنقرة التي أظهرت أنها شريك في الحرب والسلم، ولكنها لا تمارس كامل السيطرة على المعارضة والجهاديين، وهذا سيُفقدها بعضاً من امتيازاتها أمام الشريك الجديد الروسي الذي أصبح مستعجلاً للحلول في سورية، لأنه يخشى الغرق في الوحول الشرق أوسطية التي تمثّل فشله أو نجاحه كلاعبٍ أساسي دولي على ساحات أخرى.ورغم التواجد الإيراني في أستانة ولعب طهران لدور كبير بجمع تركيا وروسيا حول طاولة واحدة، إلا أن هناك خلافاً في الملف السوري مع موسكو حول التكتيك وتفاصيل جوهرية أخرى.فإيران، لا ترى أبداً نهاية قريبة للحرب السورية، وتعتقد أن الحرب ستنتهي بهزيمة فريق على آخر وخصوصاً بعد القضاء على المسلّحين (غير المشمولين أصلاً باتفاق وقف النار مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية - داعش) من الذين تعتبرهم واشنطن وموسكو من المتطرفين، وآخرين من الذين جمعوا بين التطرف و«الإخوان المسلمين» ووجدوا اعتدالاً بين الطرفين مثل «أحرار الشام».ولهذا، فهناك استعدادات عسكرية كبيرة تجري على قدم وساق حول حلب ولا سيما في الريف الجنوبي الغربي، ما يؤكد أن معارك قريبة ستدور حول مناطق الايكاردا وتل العيس ومناطق أخرى تسمح بحزام أمني حول مدينة حلب التي لا تزال تتعرّض لقصف متقطع من المسلحين الموجودين على حدود سيطرة الجيش السوري وحلفائه.وخرج الاختلاف الروسي - الإيراني إلى العلن بتصريح «تكتيكي» صدر عن وزير خارجية موسكو سيرغي لافروف الذي قال إنه «لولا تدخُّل روسيا لكانت دمشق سقطت خلال أسبوعين». واعتبرت طهران وحلفاؤها في سورية، أن روسيا تملك بضعة آلاف من قوات النخبة موزَّعين على جبهات مختلفة وبمهمات متعددة تبدأ من القوة الصاروخية الى إزالة الألغام وتوجيه الطائرات وضرباتها على أرض المعركة والطواقم الخدماتية الطبية والقوى الجوية. أما إيران وحلفاؤها فيملكون السيطرة التامة على الأرض بعشرات الآلاف من المقاتلين، وهو ما لا يعطي أفضلية لقوى على أخرى لحاجة الاثنين للذراع الجوي وسلاح المشاة.وتمّ التعاطي مع تصريح لافروف على انه مرتبط بعدم رضا إيران على الاستعجال الروسي لإنهاء حربٍ لم تنضج تفاصيلها بعد واعتبارها أن أي اتفاق لا يصمد طويلاً. أما موسكو، فترى أنها طرف داعِم لدمشق - بغض النظر عمّن يجلس على كرسي الرئاسة - وأنها مستعدة للانفتاح على المعارضين الذين يعتبرهم الرئيس السوري بشار الأسد «إرهابيين» ما لم ينضموا الى قطار المعالجة.وتتمسك إيران بالأسد وتعتبره أساساً في أي اتفاقٍ ولا ترى أي شخص غيره في الوقت الراهن على رأس السلطة، وهي تؤكد على ذلك بإرسال موفدين وقادة وممثلين عن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي كل شهر أو اثنين لإظهار العلاقة غير العادية بين إيران والأسد.ولا تخفي طهران أنها حليف لروسيا في سورية، إلا أنها لن تتردّد في اتخاذ أي موقف صارم إزاء اي تطور لا يتناسب مع «محور المقاومة» الذي يشكّل الأسد جزءاً منه، ما يُبرِز بعض الخلافات بين روسيا وإيران حول تفاصيل من الممكن أن تخرج الى العلن مستقبلاً حول مصير الأسد إذا اضطرت موسكو للتفاوض في شأنه مقابل مصالح وملفات أخرى قد تَنتج عن أي اتفاق مستقبلي بين ترامب وبوتين إذا تُرجمت التصريحات الأميركية قبل الانتخابات بالأفعال، وقرّر ترامب حل القضايا العالقة مع روسيا.ومما لا شك فيه أن مَن لم يحضر أستانة كفيل بإشعال الداخل السوري وخصوصاً أن «داعش» و«القاعدة» و«أحرار الشام» و«نور الدين زنكي» (التي أيضاً رفضت الحضور) يمثلون الفئة الأكبر من المقاتلين، ما يعني ان سورية أمام جولات عسكرية أخرى مستقبلية، من دون أن يكون اتفاق أستانة هامشياً لأنه سيحيّد عدداً لا بأس به من المسلحين.أما ترامب فإن هدفه - كما أعلنه - مقاتلة التطرف ولا سيما «داعش»، ما يعني أن من الممكن أن يدعم الأكراد في الشمال السوري ويهاجم «داعش» في العراق وسورية، الأمر الذي سيعطي الجيش السوري أريحية أكثر على جبهات أخرى ليتحضّر لها ضد «القاعدة» وحلفائها في أرياف حلب وإدلب.عام 2017 يبشّر بسخونة سوريّة مهما كانت التحالفات، إلا أنها بداية خطوة الألف ميل نحو انفراجاتٍ بدأت تلوح في الأفق على المدى المتوسط.