بعد أن افترش الروائي التونسي الهادي جاء بالله، مكاناً لروايته أراد أن يقول للقارئ هيا هيّئ نفسك لما هو آتٍ، فالكاتب هنا بدأ يدقّ ناقوس العقد المتشابكة التي سوف تتوالى على القارئ، ولعل الكاتب هنا لم يرحم عقلية القارئ حينما بدأ بكل ما أوتي من قوة ذهنية لينقض على فهم القارئ، وحسبي أنه أربك القارئ في كثير من الأوقات، ولعل بعض القرّاء البسطاء تاهت عنهم أحداث القصة وحاولوا جاهدين أن يعودوا مرة أخرى لتتبع الخيط من أوله..إن أول مشكلة يفاجئك بها الروائي التونسي هي إخفاق «البطل» في دراسته إثر اجتهاد ذهني مضاعف وتزعزع قدرته الصحية عن مواصلة دراسته الثانوية، وبذلك قد قتل أول أمنيات البطل في دخوله لكلية الطب «كشف عليه اثنان من الأطباء وتوصلا إلى نتيجة الحادثة التي كانت من وراء الاجتهاد المفرط والتي وصفوها (بالإرهاق الفكري) ص 45... فقصد الخال إبراهيم رفقة هاني الطبيب من جديد. أجرى عليه اختبارا شفويا ليأمر بعد ذلك بعدم إمكانية اجتياز الامتحان... ص 47... ولكنه ظل سابحا في أعماق نفسه مستردا لأجزاء من ذاكرته محللا للطارئ الذي حدث وللسنة التي رسب فيها ظل يجمع الأفكار ويشتتها ويستقرئ الأحداث حفنة حفنة ثم يبددها» ص 49.وها هو الراوي يحرّك أنامله ليغـيّر في رسم شخصية البطل بعد أن أوحى للقارئ بعصاميتها وثقافتها وموهبتها، فهوى به فجأة إلى شخصية يائسة بائسة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حينما غمسها بالرذيلة باحثة عن المتعة الجنسية.فبعد أن ضرب سراج ابن خاله إبراهيم موعداً مع فتاتين وصفهما الراوي بـ «انهما امرأتان تجاوزتا العقد الرابع بقليل وقد ظهر على ملامحهما آثار لكلف قديم على الوجنتين رغم محسنات المراهم... أدرك هاني أن (هيلين) بدت شغوفة من خلال نظراتها الأولى بفك شيء غامض منصهر في ذاته. لا حظ أنها تبحث فيه وتفتشه بعينها منذ اللحظات الأولى لجلوسهما. انفضت جلسة التعارف الأولى لتتكرر اللقاءات بعد ذلك وقد أخذت طورا آخر» ص 54 و 55وعبثاً حاول الراوي أن يعيد صورة البطل النقيّة - سابقاً - إلى ذهن القارئ، ولعل ما يثبت ذلك تلك المحاولة اليائسة من الراوي التي جسّدها في صورة تأنيب الضمير لدى البطل بعد أن غمسه بالرذيلة «انتصب هاني أمام المرآة فجأة بعد رحيل هيلين بأسابيع معدودة وحدق مليا في ملامحه فلم يجد أثرا يدل عليه ولذلك بادر الشاب المنتصب في المرآة بالسؤال التالي: من أنت؟ لا تدري أليس كذلك؟ دعني أقول لك من أنت؟ إنك أحد الضحايا الكثيرين المنتشرين بالجنوب الشمالي للكرة. وأن مصيرك بات على مرمى حجر من أولئك الذين ينامون في الشوارع رغم أنك لست نورانيا ولا ثائرا ولا كاهنا ولست شاعرا أو راهبا انظر التفاصيل والسمات المرتسمة على وجهك الذي يبدو شاحبا وخائبا كوجه العاشق. انظر عينيك إنهما غائرتان وذاهلتان ذهول قرص قمر متدثر في رداء من الضباب الحليبي... هل أدركت البعض مما أنت عليه؟ سأكون ديموقراطيا معك بعض الشيء، سأمكنك من بعض الوسائل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ولك أن تختار ما بين غرفة فارغة وحبل وكرسي للاستراحة، أو بحر للغرق والسباحة، أو قلم وورق للصراخ» ص 59.ثم يشحذ الراوي همّته علّـها تسعفه ليتعاطف القارئ مع شخصية بطل روايته التي مزّقها إرباً إرباً، وهو يدرك تماماً بأنه قادر على أن يعيدها إلى ذهن القارئ بوقارها وهيبتها السابقة؛ فالروائي التونسي الهادي جاء بالله واثق من نفسه في هذا المضمار وأدواته الروائية طوع يديه، فها هو يجد المبرر لما قام به بطل القصة من عمل منافٍ للأخلاق الإنسانية والأعراف الاجتماعية، مثلما أوجد المبرر لفشله في الدراسة؛ ليذكر لك جزءاً من نصّ الرسالة التي بعثها بطل القصة لهيلين، وهو بذلك قد ملك موهبة (الوصف) عصب العمل الروائي وهي دلالة على تمكنه من لغة الحوار الإنشائي بين الذات والضمير، وهذا إن دلّ يدلّ على علو كعب الراوي في علم البلاغة: «لا أدري أيهما أفضل عندي وجهك أم وجه أمي التي لم أدركها، أم وجه أبي الميت الهارب الحي، أم وجهي الذي كنت وضاع مني. أنا الآن أتوسد الفراغ بعد رحيلك ورحيل وجهك الذي وجدت فيه كل الوجوه الهاربة التي ذكرت برحيلك وأدركت أنك الوحيدة التي تأتين بالعواصف والأنواء والبروق. وتتساقط في حضرتك أضاميم الثلج عندما تجذبين معي الشراع لنصد الريح بذاك الجسد الذي يبدو باهتا ولكنه صنوا البراكين لا تهدأ» ص 60.ولكي يتمكن الراوي من سيطرته على مجريات الأحداث وليظل التعاطف قائماً مع البطل المنكسر، نرى الروائي التونسي قد التفّ على القارئ من ناحية أخرى ليطوّق ذهنه بالرضوخ لما أراده وهو التعاطف مع فعلة البطل الشنيعة وطلب المغفرة له من القارئ، وذلك حينما سطّـر ردّ رسالة هيلين وقد جاء فيها «أنا يا صغيري ومنذ عشرين عاما صار لي قلب من خشب ولكني أطوعه كالصلصال حسب إرادتي التي تود غير التوقيت المحدود، والحر، وحسب المكان والزمان المحددين أيضا، ووحدي أكون المتحكمة في لحظة قرار الشطب الكلي للأحداث... كن مثل دودة القز، كن صاحب الفعل دائما وامض... ولهذا يا صغيري حذار من نفسك على نفسك وإلا عبرت حديقة عمرك وأنت شاب أعرج» ص 64.وللحديث بقية...* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com