كلنا يعرف وجبة «الكورن فليكس» الصباحية اللذيذة التي يحبها أبناؤنا الصغار ويتناولونها تقريبا كل يوم، وعلى الرغم من المخاطر الصحية التي ترافق تناولها خصوصا كمية السكر الهائلة والسعرات الحرارية التي تحتويها وجبة واحدة منها، إلا أن الكثير من ربات البيوت لا زلن يقدمنها كأفضل حل سريع عوضا عن وجبة الإفطار التقليدية.وشخصيا لم أكن من جيل الكورن فليكس ولم أتناولها أبدا إلا في فترة دراستي الجامعية في أواسط ثمانينات القرن الماضي وكانت حينها من رقائق الذرة فقط ولم يكن متاحا لنا تلك الأصناف العديدة المتوفرة حاليا في السوق المحلي، وقد كانت بالنسبة لي تجربة جديدة ومميزة تذوقت فيها طعما مختلفا عن الزيت والزعتر واللبنة والمربى والجبنة والزيتون الفلسطيني الشهي، وأعطتني انطباعا داخليا بأن هذا الدخيل الجديد يشكل طفرة في حياتي الغذائية وثقافة جديدة دخلت بيتي، وقد كان متعارفا عليه حينها أن من يتناول هذه الوجبة فقط هم أبناء الميسورين من المجتمع العربي أو المتفرنجون والمقلدون للغرب في كل شيء.ولكن التفرنج اليوم أصبح ظاهرة واضحة وذلك بعد شيوع العولمة وتخطي الثقافات للحدود الأرضية والبحرية والفضائية فطغت ثقافة الغرب على معظم سلوكياتنا وغابت معها ملامح ثقافتنا العربية والإسلامية فتقلدنا ألبستهم وطعامهم وحتى موسيقاهم وفنونهم المختلفة، وأخيرا انتقل هذا التفرنج للمثقفين العرب وانعكس على كتاباتهم الصحافية وفي كتبهم وعناوين رواياتهم، وكأني حين أقرأ رواية حديثة أظن أني أعيش في لندن أو نيويورك أو حتى طوكيو وليس في القاهرة أو بغداد أو دمشق.وقد يقول قائل هذه هي لغة العصر وملامحه وليس هنالك ما يدعو للذعر أو الانكفاء للخلف وعزل النفس عن التغيرات الحتمية التي فرضتها العولمة والانفتاح، فأجيب أن هذا حق واضح أريد به باطل مستتر، فالملامح العربية في بلادنا العربية آخذة في الأفول وأول علامات ذلك المسلسلات والأفلام العربية التي تنقل صورة مشوهة جدا لواقعنا وتعالج قضايا لا تشكل جزءا من حياتنا اليومية مثل الشذوذ الجنسي والآثار المدمرة للمسكرات والمخدرات والتفكك الأسري والإنحلال الأخلاقي والإباحي الذي يعاني منه الغرب بشكل واضح فيما نحن نعاني من مشاكل ومصاعب مختلفة مثل الحرية والاستقلال الفعلي ومشاكلنا في البنى التحتية والصحة والتعليم وامتهان حقوق الإنسان الأساسية.مشاكلنا نحن أولى في المعالجة من مشاكل وظواهر مستوردة من أمم غيرنا وكان الأجدى والأنفع أن نستورد من حضارتهم آليات الحفاظ على حقوق الإنسان، والصناعة والزراعة والتقدم التكنولوجي وديمقراطيتهم التي تضع الجميع على مسافة واحدة من القانون عوضا عن جلب مأكولاتهم السريعة ومشروباتهم الضارة صحيا وإن أردت عزيزي القارئ الاستفاضة في ذلك الجانب الصحي فما عليك سوى قراءة ما كتبه الدكتور أحمد عبد الملك في كتابيه «خرافات طبية» و «موزة خضراء أم موزة صفراء» والذي أوضح فيهما بشكل لا يدع مجالا للشك من أن ما نأكله وما نطعمه لأولادنا إنما هو جرعات منتظمة من السموم التي ستنتهي بكوارث طبية وصحية لأجيال المستقبل التي نعول عليها كثيرا في رفعنا من مستنقعات الطائفية والتكفير والفرقة التي قصمت ظهورنا وأطاحت بكل معالم حضاراتنا العربية والإسلامية التي لم نستطع أن نحافظ عليها أبدا.إن ثقافة الكورن فليكس هي ثقافة ذات حدين مثلها مثل أي سلاح كالقلم والإنترنت، فإن أحسنا التعامل معها بالشكل الذي يلبي حاجتنا فنعمّا هِي، وإلا فالأجدى بدلا من أن نقضي أوقاتنا في لعن الظلام أن نبدأ في إشعال شمعات الأمل والبناء وأن ننظر للأمام ونتجاهل المثبطين والمرجفين الذين يزرعون اليأس بين ظهرانينا وليس لهم همّ سوى أن يلوكو بألسنتهم أعراض الآخرين ويجتروا ليل نهار خيباتهم وفشلهم الذريع.نعم، ليس كل ما يأتي من الغرب أو الشرق سيئا وهذا مؤكد فنحن نعيش في ظل صناعاتهم وإبداعات علمائهم، ولكن أين هويتنا العربية؟ ابحث عنها في الشارع والأماكن العامة فهل تجدها؟ بل ابحث عنها في أسماء المحلات والمجمعات التجارية وأنا متيقن من أنك لن تجدها إلا نادرا.لقد استفحل الخطب وزلزلت بلداننا وسحقتها الكراهية والبغضاء وخلعنا ثوبنا ولبسنا غيره الذي بالكاد يستر عوراتنا وصرنا مضرب الأمثال بين الأمم في الفشل والخنوع وأصبح العربي مصدر رعب وريبة عوضا عن أن يكون مصدرا للأخلاق الحميدة والتاريخ العريق. لقد سقطت آخر أوراق التوت أيها السادة وتعرينا تماما أمام الآخرين وصرنا أضحوكة الأمم بعد أن كنا سادتها في الشرق وفي الغرب.الأوان بالتأكيد لم يفت، ونستطيع أن نعيد بناء أمجادنا التي اندثرت وأن نستعيد بريقها الذي أفل والبداية تكون في إصلاح التعليم وإعادة الهيبة والاحترام للمعلم فمن هناك.. من المدرسة يبدأ الإصلاح وبناء الإنسان، ولا بأس في أن نأكل طعامهم أحيانا وأن نستعمل تقنيات الغرب واختراعاته التي لا غنى عنها ولكن فيما يفيدنا ويقيلنا من عثراتنا المتتالية.أيها السادة إن المائدة العربية عامرة بالأصناف وأنواع الطعام الشهي والذي هو نتاج بيئتنا الطبيعية ويلائمنا تماما فالتمر الأسمر يشبهنا كثيرا بسمرتنا العربية الأصيلة، وقهوتنا العربية المرة تشبهنا وكأنها تنطق بحال قسوة بيئتنا ومرارتها، وأما الزيت والزيتون الفلسطيني فحدث عن فوائدهما ولا حرج فلماذا نأكل ما لا يشبهنا ولا ينتمي لنا ولا لثقافتنا بأي شيء ثم نشكو السقم والمرض.. وأختم بالقول «قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت».
محليات - ثقافة
مشهد
ثقافة «الكورن فليكس»!
11:15 ص