عصامي النشأة، صنع له موضع قدم في عالم الرواية، فرض نفسه على الساحة الأدبية والصحافية بغزارة قراءاته وكثافة بحثه، يغيب عنك الأيام والليالي منكفئا بغرفته عزلة الصوفيّ المريد، مثلما يقرأ بشراهة- أيضا- يكتب بنهم، قليل الحديث معك، كثير التأمل فيك، هو الروائي التونسي/ الهادي جاء بالله القيرواني، من العين البيضاء، حيث الزيتون الأخضر والقلب الأخضر... التقيت به مع نخبة من الأدباء القاصّين والصحافيين التونسيين في أحد مقاهي شارع بورقيبة 2008، تعارفنا وقدمنا لبعض الهدايا؛ وهدايانا مقصورة على إنتاجنا الأدبي، فقد أهديته (نبضات كويتي - نثريات شعرية)، وأهدى لي روايته «مواسم الرّزاز»انصبت هذه القراءة على (الحبكة القصصية) في رواية «مواسم الرزاز» للهادي جاء بالله.«الحبكة» في المفهوم القصصي هي «الحدث المتكامل» في القصة أو الرواية، و«الحدث المتكامل» هو (البداية، الذروة، النهاية)؛ إذن «الحبكة» هي الرواية ذاتها بما تحمل من مقومات أساسية من مثل «الشخصيات، عنصريْ الزمان والمكان، الفن والأسلوب، الخاتمة».و«الحبكة القصصية» غاية صعبة المنال للكاتب؛ إذ لا بد أن يعتني بكل صغيرة وكبيرة، وعليه أن يعتني بالبداية وبالعقدة أو العقد وكيفية تشابك الأحداث، وكيف ينهي هذه القصة نهاية ترضي القارئ نوعا ما؛ لأننا ندرك بأن إرضاء القارئ قد يتفاوت من شخص لآخر، ومن ثقافة لأخرى، وعلى الروائي أن يعتني بشخوصه- ولا سيما- الشخصية المحورية، وعليه أن يعتني بعنصريْ الزمان والمكان، كما لا بد أن يحرص على فنّ الرواية؛ إن كان راوياً فعليه الالتزام بقواعد الرواية على أقلّ تقدير في المقومات الأساسية، كما عليه أن يحرص كل الحرص على مستوى الأسلوب وطبقات الخطاب، وأعني تقنيات الكتابة ومستويات اللغة، وفنية التحاور، وبراعة حديث النفس (المونولوج)، عليه أن يوظف الرموز والإشارات والعلامات بمفهوم الدال والمدلول؛ فعلم الرواية تكثر فيه السيميائيات بدءا من عنوان الرواية، لذا عليه أن يتخلص من الصور النمطية في رسم الشخصيات، كذلك ينبغي أن يبتعد قدر المستطاع عن الطرق التقليدية في الانتقال من مشهد إلى آخر؛ عليه أن يتدخل بالأحداث بطريقة ذكية بعيدة كل البعد عن ذاته، ويترك المخيال الروائي يتدرج في نمو الشخصيات وتطور الأحداث. فإلى أي مدى نجح الروائي التونسي الهادي جاء بالله في حبكة روايته «مواسم الرزاز»؟الحبكة عند الهادي جاء بالله متسلسلة تاريخـيّاً وفق مذكرات بطلها الرئيس، وديناميكية الأحداث امتازت بالمؤازرة والتآخي والتماسك وجر بعضها للبعض الآخر.بدأت رحلة «الشخصية الرئيسة» في هذه الرواية (هاني الرّزاز) من الريف إلى القرية بخطٍ متوازٍ مع رحلة نفسية لدى (هاني): «لقد ألقى بي ذاك المرافق الكهل في إحدى عربات نقل البضائع وحملني جملة يتيمة: انتبه لنفسك يا فتى وسوف تجد خالك إبراهيم بانتظارك في المحطة النهائية، والتي ستكون المقصد الوحيد للقطار، ولن يتوقف في غيرها. ورد في انخفاض تام: أنت الآن في الحياة» ص 4ويبرع الروائي التونسي الهادي جاء بالله بالولوج إلى أغوار النفس والتعمّق بخلجاتها وأنفاسها؛ ليصور لنا المونولوج (حديث النفس) لدى هذا الطفل وهو مقبل على عالم- إن صحّ التعبير- كما يقول الصحافي السعودي/ عثمان العمير (أكاسير الحياة وتجاديف التجربة ومسالك المعرفة)«... مسافات كان يلقي بها القطار من ورائي وأنا متردد وسط غمامة من مجاهيل الأسئلة. ماذا تركت وراءك؟ ثلاثة إخوة وسلحفاة- إمرة... امرأة أدرك أنها لا تحبني. وحتما هي ليست أمي لأنني كلما رددت هذا النعت كانت تصفعني مرددة كلاما- بذيئا- لا أفقهه.مفردا كنت أتوسط أكياس القمح وأنا صغير، وفقير الجيب والذهن... أتذكر هذه الرحلة العجيبة وأرى نفسي ذاك الصبي المفتوح على المتاهة. وأرى ذاك الرجل الذي سلمني إلى القطار وجملته المنخفضة: (أنت الآن في الحياة) ظلت هذه الكلمات أشد وقعا. ورافقتني وكبرت معي كأحد أعضاء جسدي» ص 5 و 6.مع أن هذه الرواية هي عبارة عن قصة تقليدية (كلاسيكية) بحتة مماثلة لكثير من قصص أبناء الريف في الوطن العربي مع اختلاف الحبكة في كل قصة؛ إلا أن الروائي التونسي الهادي جاء بالله لم يلجأ إلى (كان يا مكان) فيها بل وظـّف مهارته كراوٍ محترفٍ في تجسيد صورة البطل أولا، ثم ذكر الكلمات المفتاح (أنت الآن في الحياة)، وبعد ذلك نرى التسلسل الانسيابي لديه لربط ذهن القارئ بمقومات العمل الروائي حيث يذكر:«لقد مضى على قدومه إلى أسرته الجديدة خمسة عشر عاما. أسرة قليلة العدد تتركب من الجدة عائشة، والخال إبراهيم الأرمل، وابنه سراج. كانوا يقيمون بمنزل فسيح تطوقه أشجار الزيتون المنهمر من أعلى المنحدر الجبلي» ص 8.وبطريقة ذكيّة من الراوي بعد المضي قدماً في روايته، أراد أن يوضح للقارئ أصداء تلك الرحلة النفسيّة لدى (هاني) بطل روايته، لذا حاول الراوي التونسي الهادي جاء بالله رصد آثار المشكلة بأثر رجعي حول المصير المجهول لوالد بطل القصة: «هذه الأخبار المتضاربة حول» مسعود الرزاز- والد هاني«، جعلت من هاني سجين حقيقة يود أن يعرفها لكي يستريح ويحسم الأمر. إنه صوت لعذاب واحد كلما تذكر نشأته المرأة وثلة الأطفال والسلحفاة والإهمال والحاضر أشد وطأة رغم ما تبذله الجدة عائشة من فائق العناية» ص 11.ولم يلتزم الروائي التونسي الهادي جاء بالله بنوع واحد من السرد؛ بل لجأ إلى تعدد أنواع السرد وهي لا شك تعددية ثقافية يتمتع بها ويمتلكها؛ فالسرد عند الروائي التونسي مادة خصبة للباحث في ذلك، حيث لجأ إلى السرد العلاجي والسرد الإيضاحي والسرد القومي والوطني والسرد العلمي البحت والسرد الفلسفي... إلخ، والرواية تعجّ بشواهد كل ذلك. ولنأخذ مثالا على السرد التقويمي حيث يقول: «لم يعكر صفو» هاني «سوى هذه الفوهة التي بدأت بالتوسع شيئا فشيئا مع تقدمه في السن، كانت تنزل عليه أحيانا لحظات فيظل شارد الذهن وفاغر الفم وهذا ما جعل عيون مدرسه اللاقطة تنتبه لبعض هذا الشرود بالفصل... فحاول أن ينفذ إلى دواخله ولم يستعمل خبرته كرجل تعليم فقط بل كصاحب دراية في علم النفس التي تأخذ جانبا كبيرا من اهتماماته الذهنية» ص 13* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com