الساحة الشعرية العربية، عامرة بالتميز قديما وحديثا، وفي اعتقادي أن للشعر العربي منزلته التي لا يمكن أن تنطفئ أبدا، وستظل موجودة تأثرا وتأثرا، مهما قيل عن انزوائه وانحصاره في مقابل طغيان أجناس أدبية أخرى مثل الرواية مثلا، ولا أعطي بالاً لمقولة أن الشعر العربي لم يعد ديوان العرب، وأن الرواية هي ديوانه، لأن الشعر كتبه العرب وعاش في وجدانهم منذ القدم، وانبنت في قصائده كل الصور والخيالات التي تعد مرجعا مهما لكل باحث عن تاريخ العرب، بينما الرواية، فهي حديثة العهد بتاريخ العرب، رغم أنها الآن متميزة وأخذت أبعادا عالمية بفضل ما قدمه الروائيون العرب الرواد والحاليين.فالشعر يكاد يكون الجنس الأدبي الوحيد الذي لا ينصرف عنه أي عربي، بمعنى أن كل عربي يحفظ على أقل تقدير بيتا أو أكثر يستخدمه في الحكمة وخلافه، بينما قد تجد من لا يحب قراءة الروايات على الإطلاق.وكلما وجدت فسحة من الوقت أجدني أغيب في دهاليز الشعراء العرب، مقتنصا سيرة واحدة منهم كي أغوص معه في حسن بيانه وخيالاته الواسعة، وقصائده التي تهزني بمفرداتها المتألقة.ووقفت في وقت من الأوقات مع شاعر أموي جذبني إليه شعره العاطفي الذي يميل كل الميل إلى الغزل الذي نصفه بالعفيف إنه الشاعر عبدالله بن الدمينة، الذي انتسب إلى أمه... ويلقب بأبي السري لكثرة أسفاره ليلا أو لقوله:وأنت التي كلفتني دَلَجَ السرىوجون القطا بالجلهتين جثوموإلى الآن يتغنى بقصائده المطربون، لسهولته وليونة مفرداته، خصوصا قصيدة الشهيرة «ألا يا صبا نجد»، التي تعد من روائع الشعر العربي، وهي القصيدة التي أرى فيها قدرة مذهلة على الخيال والوصف... والتي يقول فيها:ألا يا صبا نجد متى هجت من نجدلقد زادني مسراك وجداً على وجدرعى الله من نجد أناسا أحبهمفلو نقضوا عهدي حفظت لهم ودّيسقى الله نجداً والمقيم بأرضهسحاب غواد خاليات من الرعدإذا هتفت ورقاء في رونق الضحىعلى غصن بان أو غصون من الرندبكيتُ كما يبكي الوليد ولم أكنجليداً وأبديت الذي لم أكن أبديإذا وعدتْ زاد الهوى بانتظارهاوإن بخلت بالوعد مُتّ على الوعدوقد زعموا أن المحب إذا دنايمل وأن البعد يشفي من الوجدبكلٍ تداوينا فلم يشف ما بناعلى أن قرب الدار خيرّ من البعدعلى أن قرب الدار ليس بنافعإذا كان من تهواهُ ليس بذي ودِوالشاعر من قبيلة خثعم، وفي مصادر أخرى من فرع الهزر في قبيلة أكلب، ورغم أنه فارس مغوار وله صولاته وجولاته الحربية المشهودة إلا أنه كان شاعرا جميل الخِلقة والخُلق، زِرب اللسان، وهذا ما جعل منه شاعرا متميزا، قال الشعر الغزلي فأحسن فيه، وصفا ومفردة ومعنا وكل شعره تغنى فيه بنجد وصباها، كما كان شاعرا مخضرما شهد العصرين الأموي والعباسي، وأحسن في وصف مشاعره تجاه المحبوبة، كما أحسن في وصف الأماكن والأحداث، وأكثر ما لفت انتباهي قدرته على تطويع المفردة بما يتناسب مع مشاعره الآنية، ومن ثم تضمينها بالعديد من الصور الشعرية والبلاغية المتميزة.ولقد تيمه العشق العذري، ويقال أنه هام عشقا في امرأة من قومه اسمها أميمة الأكلبية، ولكنه تزوج بغيرها، وكانت هذه الزوجة وراء مقتله، أخذا بالثأر:أميم منك الدار غيرها البلىوهيف بجولان التراب لعوبومثله مثل شعراء كثر في العصر القديم والحديث استوقفتني سيرة هذا الشاعر الأموي، نظرا لبما تحتويه قصائده من رقة وعذوبة، وتناغم متميز مع المفردات العربية.* كاتب وأكاديمي في جامعة الكويتalsowaifan@yahoo.com
محليات - ثقافة
إضاءات
عبدالله بن الدمينة... و«صبا نجد»
12:59 م