في منزله الصيفي في بلدة «بزمّار» (جبل لبنان) يمضي الفنان اللبناني الكبير إيلي شويري أيامه بهدوء بعد رحيل زوجته عايدة أبي عاد في مارس الماضي.يتنقّل بين بيته ومنزل ابنته في بيروت هرباً من الوحدة ومن الذكريات، كما يقول، وفي محاولةٍ للنظر إلى الأمام.ينفي اعتزاله الفنّ، برغم ابتعاده قليلاً، لأن الساحة لم تعد تتسع للفن الأصيل وفقاً لتعبيره. وهو يؤكد أنه يجاهد كثيراً وسط ما سماه «زوبعة الانحطاط الفنّي»، لكنّ هذه التحدّيات لا تَثنيه عن الجلوس في زاوية منزله ليؤلف لحناً جديداً!أعطى كبار الفنانين، من الراحلة صباح، (أول لحن أعطاها إياه كان «تعلا وتتعمّر يا دار»)، وسميرة توفيق وصابر الرباعي، ألحاناً لا تزال حتى اليوم «حيّة»، تماماً كأغنياته التي لحّنها وغنّاها بنفسه فأصبحت أشبه بالنشيد الوطني مثل «صفّ العسكر» و«بكتب اسمك يا بلادي» التي ردّدها بعده عشرات الفنانين.في هذا الحديث مع «الراي» استرجع شويري، الذي طبع مسرح الرحابنة بشكل خاص، ذكرياته وبداياته وطفولته. والمفارقة في مسيرته الفنيّة أنها لم تنطلق من لبنان كما حال غالبي الفنانين اللبنانيين، بل من الكويت وعن طريق المصادفة البحتة، فماذا يقول في حوار الذكريات؟• كيف بدأ التعاون مع صباح، وكيف تصف علاقتك بها، وما أهمّ الأعمال التي أعطيتَها إياها؟- لقائي مع العظيمة وحبيبة قلبي «صباح» جاء في العام 1974، من خلال مسرحية «ست الكلّ»، وقدّمتُ لها أول أغنية كلاماً ولحناً، وهي «تعلا وتتعمر يا دار» التي غدتْ إلى يومنا هذا أنشودة وطنية، وحتى أثناء جنازة الراحلة تم وضع هذه الأغنية نزولاً عند وصيتها السابقة. كما قدّمتُ لها العديد من الألحان المهمة من بينها «ليش لهلق سهرانين». علاقتي بـ «الشحرورة» كانت أكثر من ممتازة. وبكل صراحة لم أتعامل مع فنان أو فنانة بكرمها وتَواضُعها، ولم أصادف مثلها. خفة دمها وكرمها الزائد وتواضعها جعلت منها أيقونة لن يأتي مثلها أحد أبداً.• ولكن أغنية «أيام اللولو» كانت السبب في خلافك معها وخلافها مع سميرة توفيق؟- لهذه الأغنية قصة طويلة لم أخبرها سابقاً لأحد في الإعلام، هذه الأغنية كتبتُها ولحّنتُها في العام 1986 خصيصاً لصباح. وفي إحدى المرات، كانت سميرة توفيق في زيارة لمنزلي، ومن حديثٍ إلى حديثٍ كنتُ أخبرها عن بعض التحضيرات للأعمال المقبلة، فأسمعتُها بالمصادفة «أيام اللولو»، وقلت لها إنني أحضّرها خصيصاً لصباح، فطلبتْ مني أن أعطيها إياها. لم أقبل حينها كوني أعطيتُ الكلمة لصباح، لكنها سبقتني وغنّتها على المسرح مباشرة في إحدى حفلاتها، في وقت كانت الشحرورة قد سجّلتها في الاستوديو، وهنا وقع الخلاف بيننا الثلاثة. سميرة لم تدفع لي ثمن الأغنية، ولم أرفع عليها دعوى كوني أحبها وأعتبرها زميلة وأختاً، وصباح هي صاحبة الأغنية فعلياً، وهي مَن دفعتْ لي ثمنها، وأقدّر أن سميرة أحبّتها ولكن لا ذنب لي. وقد هاجمتْني الصحافة آنذاك وقالت إنني أبيع اللحن لعدة أشخاص وأنني شخص مادي وهذا كله كذب، واليوم عبر «الراي» أقول الحقيقة كاملة. وقع سوء تفاهم بيني وبين صباح إزاء هذه الأغنية، لكن طيبة قلبها وأخلاقها بدّدا الخلاف وعادتْ المياه إلى مجاريها من دون أن أعطيها لحناً جديداً، ولكن بقيتْ الصداقة.• هل تعاني قلة وفاء بعض الفنانين معك؟ وهل كان لك الدور في اكتشاف أسماء لكنهم خذلوك لاحقاً؟- بالنسبة إلى قلّة الوفاء هذا أمر بديهي في عالم الفنّ، فما دمتَ أنت قوياً وهم ضعفاء يتسللون إليك لتساعدهم، وبعد الوصول تبدأ «الخربشات». وفي الحقيقة أنا لم أصنع أيّ نجم، فالله وحده مَن يصنع. حاولتُ اكتشاف مواهب وإطلاقها في عالم الفنّ لكنهم انشغلوا بأمور أخرى، مع العلم أن لديهم إمكانات صوتية مهمة. على سبيل المثال، أطلقتُ الفنانة الشابة آنذاك داليدا رحمة التي اشتهرتْ بأغنيتيْ «يا بلح زغلولي» و«غزل الهوا مغازل»، وحققتْ هذه الفنانة انتشاراً مهماً على صعيد لبنان ثم الخليج العربي.• حبل التواصل مع زملاء الزمن الجميل هل انقطع، أو هناك زيارات واتصالات متبادلة؟- عالم الفنّ غدّار. عندما نكبر ونتقدم في العمر الكل يلتهي بنفسه، الأيام تنسينا الماضي وأصدقاء الماضي، عملتُ 30 عاماً مع فيروز. اليوم كبرتْ في السن هي وتعبتْ ولم يعد لديها الحيل لتطمئنّ عن أحد. وأنا أيضاً وسميرة توفيق، كذلك صباح حين مرضتْ، جلستْ أربع سنوات بمفردها لا أحد يسأل عنها ولا هي تسأل عن أحد. حين أجلس مع ذاتي أسترجع هذه الأيام، أشعر بالحزن كيف مضتْ هذه اللحظات ولماذا لم تستمرّ. أهرب من ذكريات الماضي وأهرب من كل شيء، هناك مَن سبقوني إلى دنيا الحق وهناك مَن يجلس مثلي في منزله يستذكر. أمضي وقتي في مشاهدة قناة محلّية متخصصة بالتراتيل الدينية ولا أتابع كثيراً البرامج. مَن هم في سني لا ينتظرون سوى ملاقاة الأحباء وأن يرجعوا إلى الله. هناك أصدقاء العمر تأسف على أنك أمضيتَ معهم أياماً جميلة، ومن دون سبب يبتعدون عنك.• أنتَ أول من أطلق الفنان صابر الرباعي؟- صابر فنان صاحب صوت وإحساس عالٍ، تعرّفتُ عليه مصادفة خلال جولة فنيّة في تونس. أحد الملحنين أحضره لي وسمعتُ صوته وأُعجبتُ به جداً، وكنتُ حينها شارفتُ على الانتهاء من تلحين «يلي بجمالك» وكانت النيّة أن أعطيها للمطرب اللبناني سمير حنّا ولكن بغير لحن. وتدخّل صديقي الملحن طالباً مني إعطاءها لصابر إلى جانب لحن آخر وهو «عسلية عيونك عسلية».• لم تحاول دخول مصر أو تلحين اللون المصري أو حتى التعامل مع فنانين مصريين؟- لم أفكّر في الموضوع إلا مرة واحدة، لكن تجربةً فاشلة جعلتْني أتردّد في خوض الثانية. قمتُ بتلحين نشيد مصري وضعتُ عليه صوتي ولكنني فوجئت لاحقاً بأن النشيد لم يُبث في الإذاعات المصرية. المصريون يرفضون الفن الغريب ويحافظون على فن وطنهم، وهذا أمر يعتبرونه شطارة، ولكنهم حتى لا يبثون الأغنيات اللبنانية. مع العلم أنني كنتُ على علاقة صداقة متينة وطويلة مع الراحل عبدالحليم حافظ، وسافرتُ معه إلى المغرب والكويت وتونس. لكن لم أفكّر يوماً بإعطائه لحناً، مع العلم أنه أخذ لحن «ضي القناديل» من الأخوين الرحباني.• كيف كانت شخصية عبدالحليم حافظ؟- هذا الرجل من «أهضم» الفنانين المصريين، وصاحب مقالب، وقد جمعتْ صداقة قوية بيني وبينه وبين صباح. كنتُ أحب بساطته، وكان خلال الجولات الفنية ووقت الاستراحة وأوقات الفراغ يأكل مع العمال وأعضاء الفرقة، ونجلس على الأرض ونأكل ببساطة من دون عيش مظاهر النجومية.• لم تكن هناك خلافات فنّية متبادلة على الصحف كما يحصل اليوم من تجريح وإثارة الفضائح بين الفنانين في وسائل الإعلام؟- أعوذ بالله، لم يمرّ عليّ قلة أدب بين الفنانين كما أسمعه وأراه اليوم. كانت الخلافات مُبطّنة، وربما كان يقال رأي سلبي بفنان آخر من دون تسميته أو تجريحه، أما اليوم فالإعلام تحوّل إلى كباريه ينشر الفنانون غسيلهم الأسود عليه. وأنا شخصياً لا أذكر أي خلاف وصل بيني وبين فنان إلى الإعلام بهذه الطريقة الرديئة. وحتى حين وقع سوء التفاهم بيني وبين سميرة توفيق وصباح لم نصل إلى حدّ قلة التهذيب.• هل تُزعجك إعادة بعض أغنياتك من الفنانين الجدد؟- أن يقوم فنان ما بتأدية أغنية لي على المسرح في سياق وصْلته الغنائية أمر عادي ومشكور على مبادرته، مع ضرورة ذكر المغني الأصلي لها. أما أن يقوم أي فنان بإعادة أي أغنية لي من دون أخذ موافقتي فلن أسمح له بذلك، وسأقاضيه فوراً، لكوني منتسباً إلى جمعية «الساسيم».• كيف تعيش حالياً؟ أي كيف تؤمّن مدخولك المادي ما دمتَ معتكفاً منذ العام 2005 عن تقديم الألحان أو الحفلات؟- في الحقيقة أستفيد قليلاً جداً وبنسبة 15 في المئة من المردود عن كل أغنية تذاع لي في لبنان أو العالم، أي الأغنية التي لحّنتُها أو كتبتُها، وهذه النسبة تفرضها جمعية «الساسيم» على كل وسيلة إعلامية تودّ إذاعة أي أغنية لأيّ فنان منتسب للجمعية ويدفع مستحقاته سنوياً.وفي لبنان تدفع الإذاعات والمحطات لـ «الساسيم» حق بثّ الأغنية، وبدورها تُجري الجمعية عملية حسابية سنوية تدفع لي بموجبها الـ 15 في المئة. ولكن هذا لا يكفي.• ماذا عن عائلتك: هل علاقتك جيدة مع أولادك؟ وهل كانت زوجتك من الوسط الفني؟- في الحقيقة تعرّفتُ على زوجتي عايدة حين عدتُ من الكويت في العام 1963، وذلك بطريق المصادفة، إذ كانت في زيارة لأختي وحصل إعجاب وتطور إلى تعارُف وزواج، وأنجبتُ منها 3 بنات. وبعد رحيل زوجتي تعبتُ كثيراً وشعرت بأنني كبرتُ 40 سنة دفعة واحدة. أحبها جداً هي سنَدي وهي مَن وقفت إلى جانبي خلال مسيرتي الفنيّة وصبرتْ عليّ. واليوم أمضي حياتي في بلدة بزمّار (صيفاً)، والشتاء أمضيه عند ابنتي في بيروت مع أحفادي، وأخرج قليلاً لزيارة بعض الأصدقاء. في عمري تقلّ الهوايات والحركة.• لو سألناك عن أكثر موضوع يحزّ في قلبك عدا وفاة زوجتك الراحلة؟- أكثر ما يحزّ في نفسي عدم امتلاكي لمجموعتي الغنائية الكاملة، وهي تبلغ نحو 1500 أغنية، غالبيتها من تلحيني. وحتى صور قديمة مع فنانين وفي رحلات عمل وسفر لا توجد لديّ. وحالياً أستعدّ للعودة إلى الغناء والتلحين من خلال أغنية فردية وطنية.