في منزله الصيفي في بلدة «بزمّار» (جبل لبنان) يمضي الفنان اللبناني الكبير إيلي شويري أيامه بهدوء بعد رحيل زوجته عايدة أبي عاد في مارس الماضي.يتنقّل بين بيته ومنزل ابنته في بيروت هرباً من الوحدة ومن الذكريات، كما يقول، وفي محاولةٍ للنظر إلى الأمام.ينفي اعتزاله الفنّ، برغم ابتعاده قليلاً، لأن الساحة لم تعد تتسع للفن الأصيل وفقاً لتعبيره. وهو يؤكد أنه يجاهد كثيراً وسط ما سماه «زوبعة الانحطاط الفنّي»، لكنّ هذه التحدّيات لا تَثنيه عن الجلوس في زاوية منزله ليؤلف لحناً جديداً!أعطى كبار الفنانين، من الراحلة صباح (أول لحن أعطاها إياه كان «تعلا وتتعمّر يا دار»)، وسميرة توفيق وصابر الرباعي، ألحاناً لا تزال حتى اليوم «حيّة»، تماماً كأغنياته التي لحّنها وغنّاها بنفسه فأصبحت أشبه بالنشيد الوطني مثل «صفّ العسكر» و«بكتب اسمك يا بلادي» التي ردّدها بعده عشرات الفنانين.في هذا الحديث مع «الراي» استرجع شويري، الذي طبع مسرح الرحابنة بشكل خاص، ذكرياته وبداياته وطفولته. والمفارقة في مسيرته الفنيّة أنها لم تنطلق من لبنان كما حال غالب الفنانين اللبنانيين، بل من الكويت وعن طريق المصادفة البحتة، فماذا يقول في حوار الذكريات؟• في البداية، وقبل الانخراط في عالم الموسيقى، كيف كانت طفولة إيلي شويري؟- أمضيتُ طفولتي في منطقة الأشرفية - بيروت. وأنا في الأصل من بلدة ضهور الشوير المعروفة عربياً بأنها كانت مصيفاً لأهل الخليج. وُلدتُ في العام 1939 داخل الحي القريب من مدرسة راهبات اللعازارية، ووالدي كان معروفاً باسم «المعلّم نقولا»، وكان صاحب ورشة تنجيد للمفروشات، ووالدتي من مدينة حمص السورية.أنا الخامس بين أشقائي، وُلدتُ في بيروت وتلقيتُ دروسي في مدارس الراهبات، ومنذ طفولتي كنتُ أحب المواويل الجبلية.• قبل دخولك الفنّ عملتَ حلاقاً نسائياً، كيف دارت بك الأمور ودخلتَ الفنّ؟- بداية عملي كانت مصفف شعر للنساء، وعلى هذا الأساس سافرتُ إلى الكويت وأشكر هذا البلد وأهله، فأنا أكنّ لهم كل المحبة والتقدير، وهم السبب في انطلاقي فنياً. ولكن بالنسبة إلى بداية دخولي المجال الفني كهاوٍ، فالأمر بدأ وأنا في الخامسة عشرة، وقد أسستُ مع أترابي جوقة غنائية كنتُ أردد فيها المواويل العراقية التي حفظتُها عن والدي. تركتُ مدرسة «مار منصور» في نهاية المرحلة المتوسطة وبعدها عملتُ في مجال الحلاقة.• إذاً البداية الفنيّة الفعلية بدأت في الكويت، كيف حصل ذلك؟- ذهبتُ للعمل هناك بطلبٍ من صديق لبناني يقيم في الكويت. وبالمصادفة وأنا أسير في شوارع الكويت، لفتتْ نظري لوحة حديدية مكتوب عليها «دار الإذاعة الكويتية»، دخلتُ لأجرّب حظي من دون أي مقدمات، وتقدمتُ بطلب لاختبار صوتي فنجحتُ، لأنتسب بعدها إلى الإذاعة وأصبح مؤدّياً في فرقتها.• هل كان دخول الإذاعة الكويتية وقبولك من الإدارة أمراً سهلاً لك؟- كنتُ خائفاً من أن يتم رفضي لأنني لبناني، ولكنني صممتُ على أن أجرّب حظي وتَحقق ما طمحتُ إليه. قدّمتُ أغنية واحدة فقبلني مدير الإذاعة عبدالعزيز جعفر. وفي تلك الفترة اتخذتُ من الاستوديو مكاناً لإقامتي. وهنا لا بد أن أتوجه بالتحية إلى روح المطرب الكويتي الراحل عوض دوخي الذي شجّعني إلى جانب الملحن المصري مرسي الحريري على تعلّم العزف على العود. وفي العام 1962 قررتُ العودة إلى لبنان والانطلاق فنياً من وطني، والسبب الذي دفعني إلى العودة كان وديع الصافي حين أتى مع فرقة «الأنوار»، وقدم حفلاً استعراضياً كبيراً إلى جانب المطربة اللبنانية الراحلة سعاد هاشم، وعدد من راقصي الدبكة. حينها شاركتُ معهم في المهرجان، وشعرتُ بأن لا مجال للبقاء في الكويت.• البداية الفعلية كانت في العام 1962 إذاً، أخبرنا عن هذه المرحلة؟- في لبنان تعرفتُ على الفنان المسرحي روميو لحود الذي كان يتحضّر لإطلاق مسرحية «الشلال» ضمن «مهرجانات بعلبك». وبفضل بعض رسائل التوصية التي حملتُها من فنانين وإعلاميين كويتيين إلى الفنانين اللبنانيين، قام أحد المنتجين بتعريفي على لحود الذي كان هو أيضاً في بداياته الفنيّة. يومها أسند إليّ دوراً ثانوياً، لأن جميع الأدوار كانت اكتملتْ، لكنه وعدني بأنه سيكتب لي دوراً أكبر في عمله التالي ووفى بوعده.• بعد التجربة مع روميو لحود، كيف انتسبتَ إلى المدرسة الرحبانية؟- خلال عملي ضمن كورال «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية الرسمية»، تعرّفتُ إلى إلياس الرحباني، فعرّفني على أخوَيه عاصي ومنصور، وبالمصادفة عَلِما أنني من بلدتهم «ضهور الشوير»، فزاد الاهتمام بي، ولكن هذا الاهتمام لم يأتِ من فراغ، فقد خضعتُ لاختبار طويل وعميق. وأتذكر حين وقفتُ أمام منصور وهو جالس خلف البيانو، يومها قال لي: «ماذا ستغني؟»، فغنيتُ له موالاً من الطقس البيزنطي، وصدقاً نظر إليّ بدهشة كبيرة وأوقف العزف ووقف ليقول لي بصوت فيه انفعال «من اليوم لن تخرج من هنا، ستبقى معنا»، وبدأ المشوار.• بعد الاختبار كيف تطور هذا التعاون؟- أسندا إليّ دور «فضلو» في مسرحيّة «بياع الخواتم» في العام 1964، وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام 1965. أما أول عمل مسرحي معهما فكان «الليل والقنديل» في العام 1963. هذه المسرحية عُرضت في كازينو لبنان، وكان دوري صغيراً، ومن ثم شاركتُ معهم في «دواليب الهوا» (مع الراحلة صباح) إلى «أيام فخر الدين» و«هالة والملك» و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم». علماً أنه إلى جانب تعاوني المسرحي مع الرحابنة وروميو لحود، كانت لي أعمال مع أنطوان غندور ووسيم طبارة وغيرهما.• مع أي شخصية فنيّة من الذين ذكرتَهم ارتحت في التعامل والعمل؟- في الحقيقة الجميع لهم الفضل عليّ، والتعامل مع كل شخصية مذكورة له ميزته، ولكن بصراحة شعرتُ بقيمتي الفنيّة وحضوري الكبير مع «الرحابنة». الرحابنة يشبهونني، كلانا لم نسعَ إلى جمع المال، وكان همّنا النجاح الفنّي والتألق، عشنا معاً كعائلة واحدة وصدقاً كنا نلتقي معاً أكثر مما كنا نجلس مع أولادنا.• أي شخصية رحبانية كانت الأقرب إليك على الصعيد الشخصي؟- كلاهما كانا قريبين مني، الأيام الجميلة التي أمضيتُها معهما في لبنان وتونس والكويت وفرنسا والأردن وسورية لا تُنسى، وبرغم عصبيتهما، لكنهما كانا يحملان الكثير من الطيبة.• كيف كانت العلاقة مع «فيروز» تحديداً، والتي تُعرف بأنها شخصية انطوائية حتى مع بعض القريبين منها؟- غير صحيح كل ما يُقال عنها في الإعلام اللبناني. فيروز شخصية حذرة عانت الكثير سابقاً جرّاء أقلام صحافيين حقودين، كما أنها خجولة جداً فتبدو للآخر كأنها انطوائية ومغرورة. ولكن مَن لم يجلس مع «فيروز» لم يجلس مع أحد، فهي شخصية فكاهية تماماً وحاضرة النكتة ومتحدّثة جيّدة وتهتمّ بضيوفها، لكنها تضع حدوداً مع الغير، ولا تستقبل أياً كان... فالدخول إلى عالمها صعب جداً.• العلاقة الطويلة التي جمعتك مع الرحابنة وفيروز هل لا تزال مستمرة بينك وبين فيروز وزياد وريما؟- الحقيقة أنه لا توجد أي اتصالات بيننا. لا أعرف لماذا في الفترة الأخيرة تعبت فيروز، مع العلم أنني شاركتُ معها إعادة مسرحية «صح النوم» (2008) التي عرضناها في بيروت وفي دمشق، ولكن فيروز تعبت، ولم تعد قادرة على استقبال أحد أو الاتصال للاطمئنان على مَن يهمها أمره.• ماذا عن خلافك الكبير مع «الرحابنة» مطلع الحرب الأهلية، وهل تصافت الأمور لاحقاً؟- رحمهما الله، الأخ يتقاتل أحياناً مع شقيقه لأسباب تافهة، ولكنها أحياناً تكون جوهرية، لا أحب العودة إلى تلك الحقبة، ولكن الخلاف سببه فرْض وجهة نظر في عمل فنّي، وأنا كانت لديّ وجهة نظر أخرى، لم نصل إلى حلّ فوقع هذا الخلاف، وغادرتُ مسرحهما إلى غير رجعة في العام 1975، بالتزامن مع اندلاع الحرب الأهليّة.• بعد مغادرتك المسرح الرحباني في مطلع الحرب الأهلية إلى أين توجّهتَ؟- بداية الحرب في لبنان (1975) كانت مؤلمة جداً على كل الشعب اللبناني، وعلينا كفنانين بشكل خاص، وحتى اللحظة أتهرّب من العودة بالذاكرة إلى تلك الحقبة السوداء. في العام 1976 توقف كل شيء. حينها لم يكن أمامي سوى الذهاب إلى إذاعة «صوت لبنان» حيث قدمّتُ برنامج «يا الله». وبعد اشتداد وطأة المعارك في بيروت هربتُ إلى بلدة بزمّار (في جبل لبنان)، وبين 1976 و1979 أصبحت الحياة في لبنان شبه مستحيلة، ولا سيما للفنانين فهؤلاء لا يستطيعون تقديم أي عمل وسط القذائف والمعارك فانتقلتُ إلى مدينة حلب السورية وهناك قدّمتُ الكثير من الحفلات.• لديك أغنية وطنية دينية تدعو فيها الناس إلى محبة بعضهم بعضاً، لكن الغريب في ذلك أنك أنجزتَها قبل الحرب بـ 10 سنوات؟- «يا ناس حبّوا الناس... الله موصي بالحب»، وفي نهاية هذه الأغنية نسمع تراتيل دينية مرفقة برفع الأذان. هذه الأغنية أنجزتُها في العام 1963، ويومها كانت هناك بلبلة خفيفة في لبنان، وشعرتُ بأن هناك «طبخة» سياسية للمستقبل. الفنان صاحب الإحساس يدرك كل شيء ولديه بصيرة عميقة، وقد كتبتُ ولحّنتُ الأغنية ولاقتْ نجاحاً كبيراً، ولكنها خلال فترة الحرب كانت تذاع يومياً. هذه الأغنية كانت بمنزلة رسالة فحواها أن أحداً لا يحبّ أحداً، ولا طائفة تقبل طائفة أخرى. تنبأتُ بالحرب الأهلية قبل أعوام من وقوعها نتيجة المناخ العام الذي كان سائداً يومذاك بين اللبنانيين.• هل حاولتَ خلال عملك وعلاقتك مع الرحابنة إقناعهم بأن تعطي لحناً لفيروز، كما فعل فيلمون وهبي على سبيل المثال؟- في الحقيقة كانت هناك محاولات، لم أطلب منهم مباشرة، ولكنني كنتُ أحاول التلميح لهم، ولم أشعر بأي تجاوب من ناحيتهم فصرفتُ النظر عن الموضوع. ولكن عوّضني الله بالراحلة الكبيرة صباح، فهي أيضاً كانت نجمة كبيرة ولها لونها وتحوّلت أسطورة لاحقاً. كما لا بدّ من التذكير بأنني قدمتُ كلمات أغنية «زرعنا تلالك يا بلادي» للفنان العظيم وديع الصافي العام 1966، وهذه الأغنية إلى يومنا هذا من أهمّ الأغنيات الوطنية اللطيفة.