في مجموعته القصصية «شق الثعبان» الصادرة عن دار صفصافة للنشر والتوزيع، يبدو الكاتب شريف صالح متحللا من القيود التقليدية للقصة القصيرة، سابحا في فضاء الرمزية بحرية تامة، وراصدا مواقف ومشاهد بكاميرا حسية أكثر منها تصويرية مجردة.المجموعة عبارة عن 136 قصة قصيرة جدا كما أسماها على الغلاف، لكن بعضها لا يتعدى الجملة الواحدة، ومع ذلك ليس لهذا السبب وحده لا يمكن اعتبارها «قصة» ولا بأي معنى متعارف عليه للقصة الأدبية، فالكاتب هنا لا يقص ولا يسرد، بل يكتفي بالتقاط مشاهدات يومية عادية ليقوم «بتظهيرها» على شكل انطباعات مشحونة بالدلالات، وفي حين جاء بعضها خفيفا بنكهة ساخرة، تشرب بعضها الآخر بعدا فلسفيا مفتوحا على التأويل، حتى أنه في بعض الأحيان بدا منغلقا على فكرة مبهمة وانطباع غامض يبقى شاردا في المخيلة.وبين المجرد الرمزي والواقعي المحسوس يرسم لنا الكاتب لوحات مكتملة حينا وغير مكتملة أحيانا كي تترك للقارئ فرصة ملئها بنفسه، وإجراء مقاربات تلامس وجدانه، وتنحو باتجاه البحث عن سلامه الداخلي.بالطبع لا يفوت القارئ ملاحظة أن ثمة تفاوتا في العمق بين الأفكار والرؤى، فهناك صور تختزن فكرة عميقة وتحثه على التأمل، وأخرى تمضي بحال سبيلها بسهولة وخفة، وثمة أحيانا صور تشده وتصدمه وتدعوه للغوص في متاهة المعنى وقد يخرج منها خالي الوفاض.في أقصوصة «معارك قديمة» تجد نفسك أمام لقطة رمزية مكثفة عن الصراعات الآنية والمعارك العبثية التي نعيشها اليوم، فمن خلال بداية صادمة وبليغة جدا يلخص الكاتب بذكاء أحد جوانب مأساتنا اليوم والمتمثل في حلم الشباب بالهجرة والهروب من جحيم استقطابات التيارات الدينية المتشددة، ويصبح التلميح أكثر وضوحا ومباشرة في أقصوصة «ألاعيب الريموت» حيث يعتمد الكاتب على حسه التهكمي للسخرية من الدعاة الذين باتوا يحتلون الفضائيات ويرددون الخطاب الإعلامي ذاته كالببغاوات في مبالغات تكشف نفاقهم، وكذلك في أقصوصة «جيوب ملآنة بالحجارة» حيث يلمح الكاتب إلى ممارسات ممثلي السلطة الدينية في الهيمنة على البشر واحتكار النص الديني لفرض رؤاهم على الناس قسرا وقيامهم بدور حراس الفضيلة والأخلاق، مرتكزا على فكرتي التسامح والتشدد بين الأديان.ولعله في أقصوصة «زوجتي والحية» أراد أن يغلق الدائرة عبر الايهام بثقل الكوابيس والهواجس المرعبة المجهولة المصدر، والتي تتجسد بالهاجس الأمني في أقصوصة «نزهة على البسكلتة» لتحول أي فرد منا إلى ضحية في سلبه حقه بالاستمتاع بفسحة من السكينة والسعادة مهما كانت بسيطة، وتصبح في أقصوصة «فريسة لكل الكائنات» أكثر ثقلا و«كافكاوية» ببعدها الوجودي الغامض والمرعب.في بعض الأقصوصات يلجأ صالح إلى شيء من السوريالية للتعبير عن اللامعقول واللامنطقي الذي يحيط بنا ويجعلنا ننساق معه بل ونتماهى فيه كي لا نصبح شواذا كما في «ألم الزجاج» التي تحيل إلى الذاكرة مسرحية نهر الجنون لتوفيق الحكيم، فهنا يغدو اللامعقول مألوفا ومقبولا، والعكس صحيح.وفي الجو السوريالي الخانق نفسه تبدو أقصوصة «مطاردة تحت السماء» ككابوس نعيشه تحت وطأة حالة التوق إلى فضاء من الحرية والتحليق بعيدا عن أجواء القمع التي تحيط بنا من كل جانب، أما في أقصوصة «العدسة المكبرة» - التي وجدتها من أكثر لقطات المجموعة قوة وعمقا في الفكرة- فتتجلى ثيمة العقاب ببعديها الفلسفي/‏‏ الوجودي والديني الموغل في القدم حيث تتكثف الفكرة حول معاناة الإنسان هنا بسبب شرط وجوده نفسه في الحياة ومن خلال علاقته بمحيطه ووعيه بذاته وبماهيته، وكذلك من خلال تساؤلاته العقيمة حول الجدوى من وجوده، هنا يأخذنا صالح إلى مشهد سوريالي بامتياز كأنه مستل من لوحة للرسام سلفادور دالي، حيث يقف الفرد/‏‏ الإنسان تائها حائرا، يرى الأشياء من حوله مضخمة «فردة حذاء سفينة» ثم تتحول إلى «العهن المنفوش» في إحالة واضحة إلى العاقبة النهائية، فلا يملك الإنسان إلا أن يصرخ: «ألن ينتهي العقاب؟»وفي أقصوصة «كشف الغطاء» يتكشف بعد فلسفي آخر يتمحور حول جدلية الموت والحياة ويبقى السؤال حول المتعة معلقا: هل تكمن في الحياة أم بالحرية أم بالموت... هل الموت امتداد للوجود أم الوجود هو الوجه الآخر للموت؟وفي «ضوء النفق» يلعب الكاتب أيضا على وتر الفكرة الوجودية القائلة بأنه ربما قدرنا جميعا أن نلهث وراء أي ضوء مهما كان شحيحا قد يبدو لنا في نهاية نفق، لكنه هنا هو نفق وجودنا في الحياة نفسه.وفي «ملاكمة الظل» نستشف أيضا بعدا فلسفيا وجوديا يتمحور حول الأنا والوعي، ما يدفعنا إلى طرح سؤال يبدو لا منطقيا للوهلة الأولى وهو: هل نحن وذواتنا متطابقان حقا؟ إلى أي مدى منسجمان فعلا؟ وإلى أي درجة نشبه ذواتنا؟وكذلك في «اختر إطارك» يتبدى بعد فلسفي وجودي يرتكز على فكرة مفادها أن المجتمع وربما نزعة الاستهلاك السائدة فيه لا تني تفرض على حياتك إطارا نمطيا، في حين تحاول أنت جاهدا الإفلات من أي إطار جاهز يؤطرها ويقيد تطلعها نحو الحرية المطلقة.لا يغيب النفس الصوفي عن كثير من أقصوصات المجموعة ففي «طريقي إلى الله» يمنحنا شريف صالح نفحة صوفية صافية ويدعونا إلى التأمل بعمق لنخرج بانطباع مفاده أن الجمال الخالص هو الطريق نحو الاله. وتخيم النزعة الصوفية ذاتها على أقصوصته «الأمر قريب» حيث تهيمن فكرة الخلاص بوصفها الهدف الأوحد الذي يتوارى خلف كل حالة إنسانية، ويتجلى بصور شتى، فهو في نهاية المطاف المرام المشتهى غير المدرك، غير أن فكرة الخلاص تلك تتجسد في أقصوصة «العارف» بالتوق إلى الراحة النفسية عبر إدراك الحقيقة بمعناها المطلق لكنها ستبقى غاية لا تدرك للأناس العاديين أو ربما لن ينالها إلا الساعون إليها بجد ومثابرة بخروجهم عن المألوف والنمطية في التفكير، أولئك الذين يمتلكون ذهنية متمردة منفتحة على المغامرة والسير بعكس التيار.لا تقتصر أقصوصات المجموعة على أفكار فلسفية أو «متصوفة» بل يلتقط الكاتب ومضات إنسانية برهافة بالغة وبإحساس شفيف قد لا تخلو أحيانا من حس الدعابة كما في «ابتسامة واحدة لا تكفي» فعلى الرغم من أنها لقطة عادية ومألوفة لكن ما يميزها هنا هو خفة الظل في التعبير عن موقف يعكس الجدلية الأزلية لحسيّة الرجل وإغواء المرأة، وذلك انطلاقا من المقولة الرائجة «امرأة واحدة لا تكفي».وفي «غزال في القلب» يلمّح شريف صالح بخفة ظل وطرافة أيضا إلى وقع الجمال الأنثوي في قلب الرجل مهما بلغ من العمر، وفي «أول بنت» ينقلنا إلى عالم الطفولة وبراءته ولعله يريد أن يقول إن لم تعش الحب في تلك اللحظات من عمرك فإن مصيره الضياع، فالحب هو تلك اللحظة التي إن فقدتها ولم تقبض عليها في حينه فإنه يتبخر ويتلاشى ولا يبقى منه إلا ذكرى غامضة كالعطر.في سعيه إلى التلوين في كتابته سواء على صعيد المضمون أو الشكل لا يتردد شريف صالح في اللجوء إلى تكنيكات متنوعة وربما غريبة، في جرأة واضحة تكسر الأنماط السائدة في الكتابة القصصية، ففي «لا أتذكر سوى أثر قبلة» لا نشاهد سوى صفحة بيضاء تظهر في نهايتها خطوط منقطة تنتهي بجملة واحدة مكثفة «لا أتذكر من الحلم سوى أثر قبلة» وكأنما يدعونا إلى نسج حلمنا الخاص أو استحضار موقف أو حالة مفعمة بالدفء مازالت نكهتها متغلغلة في ثنايا الذاكرة لنتقمصها مجددا.يتمتع الكاتب شريف صالح بحس عال من السخرية الرصينة إذا جاز التعبير، فهذه السخرية لا تبدو سطحية وبنفس الوقت قد يستعصي فهم الهدف منها أحيانا، أو يحمل معناها أكثر من تفسير أحيانا أخرى، ففي أقصوصة «شق الثعبان» التي حملت المجموعة عنوانها يضعنا صالح أمام موقف طريف قد يكون عاديا لكنه أراده أكثر من مجرد محك للرجولة الذكورية، إذ ربما كان يرمي لدلالات أخرى كأن في لحظة ما قد تجد نفسك بمواجهة مصير فاصل في حياتك وعليك أن «تكون أو لا تكون» كما قال شكسبير على لسان بطله هاملت، وربما أراد القول إن الحياة تتطلب منا أحيانا شجاعة استثنائية في مواجهة أقدارنا أو أن نثبت وجودنا في لحظة حاسمة لا وقت فيها للحسابات. وفي «بول الشيطان» يتعمد صالح السخرية من تنشئتنا الاجتماعية البالية وما يشوبها من خرافات كان يُدخلها الآباء في عقولنا صغارا لإرهابنا بغرض تقويمنا، لكن الجيل الحالي ليس ساذجا كالجيل السابق، ولا تنطلي عليه حيّل الأهل وتعاليمهم، ولم يعد يتقبل معلومة دون برهان علمي.أما في «الأمالي لأبي علي القالي» فقد التقط الكاتب لقطة تجسد مفارقة لا تخلو من حس الفكاهة وتعكس تعلق الأثرياء بالظهور بمظهر المثقفين في حين أنهم أبعد ما يكونوا عنه، وكذلك في «مذيعة على باب المهرجان» حيث أراد الغمز إلى سطحية الإعلام العربي ونمطيته، وفي «عروس على خلق» كان يرمي بخفة ظل إلى الهبوط التدريجي لسقف أحلام الكثيرين مع مرور الزمن.لكن حس السخرية هذا يتحول إلى إحساس رهيب ممزوج بالمرارة والأسى في أقصوصة «هواية تصوير الجثث» حيث يمكنك الاكتفاء بالعنوان كي تدرك بشاعة الفكرة وعبثيتها.هنا ينقلنا صالح دون رحمة إلى حالة اللامبالاة التي باتت تتملكنا تجاه الموت المجاني المحيط بنا إلى درجة أنه لم يعد يعني لنا سوى صورة تُلتقط عبر الهاتف الذكي!في هذه الأقصوصة بالذات تتكشف عبقرية شريف صالح في التنبؤ بواقع مفعم بالسوداوية والمفارقات الأليمة لم يكن يخطر على بال أحد، قد يعتقد القارئ أن صالح ذهب بعيدا في سوداويته تلك، لكن الواقع أثبت أنه لم يمعن فيها بقدر ما كان لديه حدس مبكر جدا لما آل إليه الوضع اليوم لاسيما في الحرب الطاحنة الدائرة في سورية، حيث تناقلت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مؤخرا صورة لمراسلة التلفزيون الرسمي السوري وهي تلتقط صورة لنفسها (سيلفي) بابتسامة مشرقة ومن خلفها تظهر مجموعة من الجثث!