صدرت رواية «سحر البحر» للروائي المصري أشرف الخريبي عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي عمل روائي تخيلي، شديد الثراء بعالمه الشعري، تنبعث منه الإشارات والرموز الروحية التي ما تنفك تضمّد جرحا حتى تعود لتنكأ جرحا آخر داخل الروح الإنسانية العميقة. وقد عبّر المكان الذي اعتمد عليه الكاتب في تناص الرواية وآلياتها وهو البحر بأعماقه وكائناته الأسطورية، وأسراره لتبدو مجموعة من النوافذ تطل بنا على لوحات تراوح فيها الألوان المتباينة يتخللها الابيض كظلال، تجلت مهارة الكاتب تماما في تصوير هذه الحركة البنائية التي تتنوع بين السكون والصراع على مختلف المستويات، صراع بين الروح والحقيقة والوهم.وتقول الناقدة المغربية مالكة عسال، إن هذه الرواية تشبعت بالحداثة في سردها وعالمها الفريد، في مبناها، ومعانيها المتنوعة ودلالتها، بصياغتها الفنية، والمرامي المستهدفة، وبتشكيلاتها السردية، فالذات المبدعة تمردتْ بوضوح على الوعي الجمالي المألوف، مهشمة المتداول من الأنظمة الأدبية الروائية، الذوقية والجمالية لتؤسس لها آفاقا جديدة، زارعة بذرة الشك في القيم الإنسانية السائدة، متجاوزة المعاني المباشرة الواضحة، لتجسيد رؤى فنية تهتم بالجوهر من دون السطح، واللب من دون القشور، في بناء مختلف يربط بين الأحداث والشخصيات والزمان والمكان بكل جزئياتها وتفاصيلها في قالب فني مُدهش قافزا عن الحشو والتفسيرات الزائدة لتحقيق التأثير والمتعة والإقناع، لذا اتخذت بلاغة الصور، ومتانة الاستعارة، وانتقاء الألفاظ اتجاها فنيا فريدا، اصطفى فيه المبدع من بين الروائيين المحدثين، باستجابته لقضايا إنسانية، بالتعبير السردي عن مواقفه في بعدها الكوني.تتسربل الذات المبدعة في فيافي العشق، تتيه في أمدائه الرحبة، منزوعة الفكر مهلوسة الخاطر، مسلوبة العقل يقول: «كنت أتدهور في أقداح ممالكها يدخلني العشق في حششتها نار عشق كاوية تفور، انعكست على الجسد ظاهرا وباطنيا، ولم تكن الذات المبدعة تفرغ حممها البركانية إلا في علب البحر، فهو وحده الخل الوفي الذي كان ينصت إليها، ويفرج عنها كربتها، ويخفف عنها وطأة عذابه المجبول بالفراغ والوحشة والإحباط، وكلما حاولت أن تنسى إلا وتأججت جذوة العشق، وتسربت بعمق في كل الأنحاء، فتجرفها موجات القلق والحنين، محبطة تائهة في شواطئ بلا مرسى، يقول: «ما أحوجك الآن لحاسة شديدة الحساسية، لتسمعين بها ما يدور بداخلي»لحظات من الأوجاع والهموم مفعمة بالحزن والأسى، استبدت بالذات المبدعة، وهزّتها من الجذور، تحاول جاهدة أن تتنصل منها، لكن يستفحل الأمر، فتذوب في هالته يقول: «كنت أنا وأنت قدسا من الأقداس، نورا من الأنوار» ص:42 درجة من التبجيل والعظمة حد الجنون مرشوشة بنبرة التصوف... والعشق للحبيبة صفاء ليس هنا عشق الذكر لأنثى، كما هو معتاد ومعوّد عليه، وإنما عشق محمود وُظّف بشكل رمزي للصفاء، أي الطهر والنقاء من الرذائل والخبائث، عشق لحياة بلا كدر، بلا مكائد وأحقاد وضغائن، عشق لعالم بأجواء صافية خالية من تدمير القيم الإنسانية، وتخريب طيب العيش، عشق لكون صاف من سموم الحروب، وأوجاع القتل، عشق لأوضاع تناشد بصيحة مدوية القيم الجميلة وصفاء الأنفس وطهر القلوب، في كل الأرجاء...هي إذاً دوافع نفسية إنسانية لنفس، تتوق إلى الرونق فتبحث في وجوه الأرض عن الأمان، عن زرع قيم حضارية مبنية على الحب والسلام، ومبادئ التآخي والتسامح والتماسك، وعدم إلغاء الآخر، كأنه بذلك يريد نشر ثقافة الديموقراطية في بعدها الإنساني الجميل، والابتعاد تماما عن التشرذم والتسلط والهيمنة والجحود، ليعيش الإنسان بكرامة...هي رؤيا تولدت من خلال ما تعيشه الذات المبدعة من واقع مزر محاط بأسرار مبهمة، تنثني على القلق والانفعال... خاصة لما تعيش أحداثا أسرية محزنة كالموت بفقدان عزيز عاش معه تجارب متّنت علاقتهما، أو كان له به صلة من الألفة والمحبة... صراع قوي تكابده الذات المبدعة بين ما تأمله وما تعيشه، فتتوغل في دوامة يسيطر فيها المجهول على مكامن النفس، فيضيق الخاطر ويصبح العالم مجرد كائنات متوحشة مستبدة، وهو خوف مطلق في قرار النفس نتيجة المعاناة التي احتلت زاوية غير سهلة في العمق، ناهيك عما اعتراها من نكبات كدرة، نزلت بثقلها على هامتها، وأصابتها بالتلف، ثم قذفت بها في ركن قصي من العزلة، لتعيش حالة من الاغتراب إلى درجة أن الدنيا في اعتقادها لم تعد مجرد شيء تافه، ولعبة مسرحية سرعان ما تنتهي... هذه الرؤية خلخلت الذات المبدعة فأصبحت ترى العالم بنظرة سوداوية تشاؤمية، احترقت فيها كل حقول الأحلام، وتحطمت فيها النظرة إلى المستقبل، والاستعداد للآتي، ودب الشك في وجود الذات، فأخذت في المساءلة حول حقيقة الوجود، وحقيقة ما تعيشه، هل فعلا الذات المبدعة لها حيز في الوجود أم ما تراه مجرد وهم؟ حالة من الشك الفلسفي تعمقت فيه النظرة إلى العالم من زاوية فلسفية خاصة... تقول: «كأنني أعيش وهما». ص46يبلغ الوهم حده فيتحول إلى جنون وهلوسة، حين يتخيل الراوي أن حبيبته صفاء تأتيه بين أفراد أسرته، تسامره وتحاوره، وتغبطه بدفئها وهم لا يرون شيئا... تقول: «فانتظروا قدومك لكنك تسربِت إلى نفسي في هدوء وروعة، ولم يشعروا بشيء».صدرت رواية «سحر البحر» لأشرف الخريبي عن مطبوعات الهيئة المصرية العامة للكتاب.
محليات - ثقافة
عمل روائي تخيّلي يعتمد على بلاغة الصور
«سحر البحر» لأشرف الخريبي... صراع بين الروح والحقيقة والوهم
09:56 ص